34/07/21
تحمیل
الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
في الدرس السابق كانت النتيجة التي انتهينا إليها هي أنّه لا يمكن التمسّك بحديث الرفع لإثبات وجوب الباقي في حالات حصول الاضطرار، أو الإكراه على ترك جزء الفعل أو العبادة، كالسورة في الصلاة، وكان الكلام في أنّه هل يمكن تصحيح الإتيان بالباقي ؟ وقد تقدّم عدم إمكان تصحيح الإتيان بالباقي استناداً إلى حديث الرفع، وإن كان يمكن تصحيحه استناداً إلى أدلّة أخرى كقاعدة الميسور، وأنّ الصلاة لا تُترك بحال وأمثال هذه الأدلّة الدالة في موارد معيّنة.
حينئذٍ يتوجّه سؤال: ما هو الفرق بين فقرة(ما اضطرّوا إليه و(ما أكرهوا عليه)، وبين فقرة(ما لا يعلمون)، حيث نرى أنكم في فقرة(ما لا يعلمون) اثبتّم وجوب الإتيان بالأقل عند الشك في وجوب السورة، المسمّى بدوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، تمسّكاً بحديث الرفع، مع أنّهما من وادٍ واحد، فأي فرق بينهما ؟ هناك تمسّكتم بحديث الرفع لنفي جزئيّة الجزء في حال الاضطرار الذي لازمه كما تقدّم رفع منشأ الجزئيّة الذي هو الأمر بالكل، وقلتم هناك إذا ارتفع الأمر بالكل بحديث الرفع، فلا دليل على الأمر بالباقي، ممّا يعني عدم إمكان تصحيحه، وهنا في محل الكلام أيضاً فقرة(ما لا يعلمون) ترفع جزئية الجزء في حال الجهل والشك، أيضاً جزئية هذا الجزء لا ترتفع إلاّ برفع الأمر بالأكثر، فإذا ارتفع الأمر بالأكثر؛ فحينئذٍ يأتي نفس الكلام من أنّه ما هو الدليل على الأمر بالأقل ؟ بحيث أنّ المكلّف عندما يشك في وجوب السورة إذا صلّى من دون سورة، بعد إجراء حديث الرفع لنفي وجوب السورة، فصلاته تكون صحيحة، وتكون مأموراً بها، وهذا الأمر بالأقل يصححّ الصلاة لو جاء بها فاقدة للجزء المشكوك الجزئية. ما هو الفرق بينهما ؟
الجواب عن هذا السؤال هو: أن وجوب الأقل في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين هو من نتائج دوران الأمر بين الأقل والأكثر، ومن نتائج العلم بوجوب الأقل على كل حالٍ إمّا في ضمن الأكثر، وإمّا مستقلاً، فإذا أمكن نفي الجزئية بحديث الرفع الذي لازمه نفي وجوب الأكثر المشتمل على ذلك الجزء المشكوك الجزئية الذي يُشك في وجوده في ذلك المركب، وانتفى وجوب الأكثر؛ فحينئذٍ نقول لا إشكال في تعيّن وجوب الأقل؛ لأنّ الأمر في دوران الأمر بين الأقل والأكثر هو اساساً دائر بين وجوب الأكثر ووجوب الأقل، إمّا أنْ تجب الصلاة المشتملة على عشرة أجزاء، وإمّا أن تجب الصلاة المشتملة على تسعة أجزاء؛ لأنّ الباب هو باب الجهل وعدم العلم والشك في جزئية السورة من هذا المركب، وموردها الجهل وعدم العلم، لا محالة يحصل دوران عند المكلّف بين وجوب المركب المشتمل على ذلك الجزء المشكوك، وبين وجوب الأقل، والأقل معلوم الوجوب على كل حالٍ إمّا في ضمن الأكثر، وإمّا مستقلاً لوحده، وهذا العلم بوجوب الأقل على كل حالٍ، مع أنّ محل الكلام هو دوران الأمر بين الأقل والأكثر، هو الذي يُستنَد إليه لإثبات وجوب الأقل. بعد جريان البراءة ورفعها للجزئية مع الجهل المستلزم لرفع وجوب الأكثر مع الجهل، هذا صحيح، لكن نثبت وجوب الأقل باعتبار أنّ هناك علماً إجمالياً بوجوب إمّا الأقل، وإمّا الأكثر، فإذا ارتفع الوجوب الأكثر ببركة جريان البراءة يتعيّن الأقل. وأين هذا من محل الكلام ؟! إذ في محل الكلام لا يوجد اشتباه، ولا يوجد دوران، ولا جهل، وإنّما في محل الكلام يُعلَم بأنّ هذا الجزء مرتفع في حال الاضطرار قطعاً، ويُعلَم بأنّه جزء من المركب في حال الاختيار وعدم الاضطرار، وبعد أنْ يُعلَم بارتفاع هذا الجزء بحديث الرفع في حال الاضطرار، لا يكون لدينا دليل على وجوب الباقي في حال الاضطرار؛ لأنّ حديث الرفع رفع جزئية هذا الجزء في حال الاضطرار، ولازمه كما تقدّم هو رفع الأمر بالكل في حال الاضطرار، فيقال حينئذٍ: إذا ارتفع الأمر بالكل في حال الاضطرار، فما هو الدليل على وجوب الإتيان بالباقي، هذا لا يجب أنْ ينقض عليه بموارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر.
وبعبارة أخرى: أنّ إثبات وجوب الأقل في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر ليس بحديث الرفع حتّى يقال: كيف أثبتّم وجوب الأقل بحديث الرفع في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر، ولم تثبتوا وجوب الباقي في محل كلامنا بحديث الرفع ؟
الجواب هو: أننّا لا نثبت وجوب الأقل في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر بحديث الرفع، وإنّما نثبت وجوبه باعتبار أنّه معلوم على كل حالٍ إمّا في ضمن الأكثر، وإمّا مستقلاً، ولا يمكن أنْ تجري فيه البراءة إذا جرى حديث الرفع ونفى وجوب الأكثر بالبيان الذي يُذكر؛ فحينئذٍ يتعيّن كون الأقل هو الواجب.
هذا كلّه في الأحكام التكليفية الاستقلالية والضمنية، وانتهينا الآن إلى الأحكام الضمنية، وهل يجري فيها حديث الرفع، أو لا ؟
الأحكام الوضعية
في باب الأحكام الوضعية هل يجري حديث الرفع لنفي الحكم الوضعي في موارد الاضطرار والإكراه وسائر العناوين الأخرى، أو لا ؟
قبل الدخول في البحث أخرجوا من هذا البحث موارد الاضطرار، وقالوا: لا يجري فيها الحديث قطعاً، باعتبار أنّه إذا اضطر المكلّف إلى بيع داره لكي يداوي نفسه أو ولده أو عائلته، هنا إذا جرى حديث الرفع لرفع الصحّة التي هي الحكم الوضعي المترتب على البيع، يعني أنّ البيع وقع مورداً للاضطرار، فيأتي حديث الرفع ويرفع أثره الذي هو الصحة، فيقال للبائع أنّ بيعك باطل لا يترتب عليه الأثر؛ حينئذٍ يكون نفي الصحّة في موارد الاضطرار خلاف الامتنان، فإذا اضطرّ إلى أنْ يطلّق زوجته تخلّصاً من المشاكل، فإذا جرى حديث الرفع يقال له أنّ طلاقك غير صحيح. وهذا ليس فيه امتنان؛ بل هو على خلاف الامتنان، فلا يجري فيه الحديث، وأخرجوا كل موارد الاضطرار عن محل الكلام. هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى هناك أحكام وضعية تترتب على الفعل بنفسه، لا من جهة انتسابه إلى المكلّف، ولا باعتباره فعلاً للمكلّف، وإنّما تترتب على ذات الفعل، أو على ذات الموضوع الذي هي مترتبة عليه شرعاً، مثل هذا ايضاً لابدّ من إخراجه؛ لما تقدّم سابقاً من أنّه يعتبر في شمول الحديث لموردٍ أنْ يكون ذلك الأثر مترتباً على الموضوع بما هو منتسب إلى المكلّف، وبما هو صادر منه، وأمّا إذا كان الأثر أثراً لذات الفعل، أو لذات الموضوع ولو لم يكن منتسباً إلى المكلّف، فهذا لا يشمله حديث الرفع على ما تقدّم سابقاً، في محل الكلام يُطبّق هذا في المقام ونُخرج بذلك قسماً من الأحكام الوضعية التي تترتب على ذات الفعل لا بما هو منتسب إلى المكلّف كما في النجاسة، فالنجاسة حكم وضعي مترتب على ملاقاة النجس، لكن لا باعتبارها فعل المكلّف، وإنّما هي مترتبة على ذات الملاقاة ، مثل هذا الحكم الوضعي أيضاً لابدّ من إخراجه عن محل الكلام لما تقدّم سابقاً من أنّه لا يجري فيه حديث الرفع.
في موارد الإكراه التي اتفقوا على جريان حديث الرفع فيه، إذا باع مكرهاً، هنا قيل بجريان حديث الرفع لرفع صحّة ذلك البيع، ونفي الأثر المترتب على البيع الواقع في حال الإكراه فيحكم ببطلان البيع الواقع عن إكراهٍ، باعتبار أنّ حديث الرفع يرفع الأثر المترتب على هذا البيع الإكراهي، وهو الصحّة، فيرفع الصحّة، وهو معنى البطلان. وهذا ليس فيه خلاف الامتنان، وإنّما رفع صحّة البيع المضطرّ إليه المكلّف فيه خلاف الامتنان، أمّا رفع صحّة البيع الذي يُكره عليه المكلّف، ولا يريده، فليس فيه خلاف الامتنان؛ بل فيه امتنان على المكلّف، فيجري فيه حديث الرفع.
لكن إجراء حديث الرفع في هذه الموارد فيه ملاحظات، ومن جملتها هي أنّه يجري في البيع وأمثاله، وليس في كل الأحكام الوضعية، وإنّما في العقود إذا وقعت مورداً للإكراه، فهل يجري حديث الرفع لنفي الصحّة ؟ هناك تأمّل في ذلك، ومنشأ هذا التأمّل من أنّنا لسنا بحاجة إلى إجراء حديث الرفع لنفي صحّة البيع الصادر عن إكراه، والطلاق الصادر عن إكراه، باعتبار أنّ الأدلّة دلّت على أنّ العقود والإيقاعات يعتبر فيها طيب النفس، والرضا، والاختيار، وإذا قام الدليل ودلّ على أنّ البيع لا يحكم بصحّته إلاّ إذا صدر اختياراً، فإذا صدرا اضطراراً فنفس الدليل يدلّ على عدم صحّته، وعلى فساده؛ لأنّ الدليل الذي دلّ على الصحّة مشروط بأن يصدر البيع، أو الطلاق، أو سائر المعاملات الأخرى عن طيب نفسٍ وعن تراضٍ، وعن اختيارٍ، وهذا معناه أنّه إذا صدر عن اضطرارٍ فنفس الأدلّة تدلّ على عدم صحّته لانتفاء شرط الصحّة الذي حكمت به تلك الأدلة، فنحن لسنا بحاجة لإثبات بطلان بيع المكره، أو طلاق المكره للاستدلال بحديث الرفع.
ومن جهة أخرى تقدّم أيضاً سابقاً أنّ حديث الرفع يشمل الأثر المترتب على الفعل الغير المقيّد لا بواحدٍ من هذه العناوين، ولا بعدم واحدٍ منها، أي الأثر الذي يترتّب على ذات الفعل، لا الفعل المقيّد بالاضطرار، ولا الفعل المقيّد بعدم الاضطرار، يعني بالاختيار، ولا الفعل المقيّد بالنسيان، ولا الفعل المقيّد بعدم النسان، الذي هو التذكّر، ولا الفعل المقيّد بالخطأ، ولا الفعل المقيّد بعدم الخطأ الذي هو العمد، كلّ هذه الآثار لا يشملها حديث الرفع. ولا إشكال في أنّ الأثر المترتب على المعاملات من العقود والإيقاعات مقيّد بصدورها في حال الاختيار، يعني بنقيض أحد العناوين وهو الاضطرار، وهذا الأثر مقيّد بعدم الاضطرار أي مقيّد بالاختيار، فإذا كان مقيّد بالاختيار وصدر اضطراراً فهو يرتفع قهراً؛ لأنّ الأثر يترتب عليه مقيّداً بأنّ يصدر اختياراً، فإذا كان مقيّداً بالاختيار؛ فحينئذٍ يرتفع هذا الأثر قهراً، كما أنّه إذا كان مقيّداً بعدم الخطأ، أي بالعمد، فهذا لا يشمله حديث الرفع؛ لأنّه إذا صدر خطئاً ارتفع الأثر؛ لأنّ الأثر مقيّد بعدم الخطأ، يعني بالعمد. إذن: لا معنى لأنْ يقال بأنّ حديث الرفع يشمل هذه الموارد، وإنْ كان في شموله لها يحصل امتنان على المكلّف، لكن من جهات أخرى يكون هناك مانع من شمول حديث الرفع لمثل هذه الأحكام الوضعية.
نعم، هناك شيء آخر قد يُطرَح في المقام بأنْ يقال: أيّ محذور في أنْ نجري حديث الرفع في حالة الإكراه ليس على الإتيان بالمعاملة كما كنّا نمثّل، وإنّما أنْ نجري حديث الرفع في المعاملات لكن بلحاظ ترك المعاملة، وليس بلحاظ الإتيان بها، كما لو أُكره على ترك المعاملة، بأنْ فرضنا أنّه كان يريد طلاق زوجته، وأُكره على ترك الطلاق، فهل هناك مجال لتطبيق حديث الرفع لإثبات نتيجة الطلاق التي هي عدم الزوجيّة ؟ قد يقال ـــــ استناداً إلى وجهٍ تقدّم سابقاً كُررّ مراراً ــــــ أنّ هذا ممكن إذا قلنا بأنّ الرفع في حديث الرفع هو رفع تنزيلي، وليس رفعاً حقيقياً؛ لأنّ مرجع الرفع التنزيلي من قبل الشارع هو أنّ الشارع يرفع رفعاً تنزيلياً، يعني تنزيل ما يُكره عليه الإنسان منزلة نقيضه، فإذا اضطر، أو أُكره على الفعل يُنزّل منزلة العدم، أمّا إذا أُكره على العدم، أو اضطرّ إليه فيُنزل منزلة الفعل، وتطبيقه هنا في هذه الفكرة، بأنّ هذا أُكره على ترك الطلاق، فاستناداً إلى الرفع التنزيلي يُنزّل هذا الترك منزلة الطلاق، فكأنّه يكون نوع من التعبّد بالطلاق وإنْ لم يصدر منه حقيقةً وواقعاً، فإذا صار تعبّد بالطلاق ترتّب عليه أثره وهو نفي الزوجية.
الوجه الآخر الذي يمكن أنْ يُذكر لإثبات نتيجة الطلاق وإنْ لم يصدر منه هو أنْ يقال بأننّا لا نحتاج إلى هذا، نحن نقول بأنّ ترك الطلاق هو بنفسه له أثر شرعي، فالطلاق له أثر شرعي وهو نفي الزوجية، وترك الطلاق أيضاً له أثر شرعي وهو بقاء الزوجية؛ لوضوح أنّ بقاء الزوجية يتوقف على عدم الطلاق، أي أنْ لا يُطلّق، وإلاّ، إذا طلّق؛ فحينئذٍ لا تبقى الزوجية. إذن: بقاء الزواج هذا أثر يترتب على ترك الزوجية بقاءً. فصار لدينا أثر شرعي يترتب على ترك الطلاق. وقد تقدّم سابقاً أنّ حديث الرفع لا يُفرّق فيه بين الأمور الوجودية والأمور العدميّة، فكما يجري في الأمور الوجودية إذا كان لها أثر شرعي، فيرتفع ذلك الأثر، كذلك يجري في الأمور العدميّة إذا كان لها أثر شرعي، فيرتفع ذلك الأثر. في محل كلامنا ترك الطلاق وأثره بقاء الزوجية، إذا كان ترك الطلاق مورداً للإكراه كما هو المفروض، فيجري حديث الرفع لرفع الوجود التشريعي لترك الطلاق، ومعنى رفع الوجود التشريعي لترك الطلاق هو رفع أثره، كما هو الحال في الرفع التشريعي لأيّ شيءٍ، معنى أنّ هذا مرفوع تشريعاً في عالم التشريع، يعني أنّه لا يترتب عليه أثره، وإذا لم يترتب عليه أثره صار له وجوداً تشريعياً، ورفع الوجود التشريعي لترك الطلاق يكون برفع أثره الذي هو بقاء الزوجية، فيرتفع بقاء الزوجية، فيثبت نفي الزوجية، وبهذا نصل إلى إثبات نتيجة شمول الحديث للمقام، يعني يثبت في المقام انتفاء الزوجية من دون أنْ يتحقق منه الطلاق، فنثبت نتيجة الطلاق، وهي انتفاء الزوجية بهذا الوجه، لا باعتبار ما تقدّم سابقاً من أنّ هذا رفع تنزيلي وننزّل الترك منزلة الوجود، فإذا نزلنا الترك منزلة الوجود، يعني نعتبر ترك الطلاق بمنزلة الطلاق، فيترتب على الطلاق أثره الذي هو نفي الزوجية. كلا، ليس على هذا الأساس، وإنّما على أساس أنّ ترك الطلاق له أثر شرعي، وهو بقاء الزوجية، فإذا صار ترك الطلاق مكرهاً عليه جرى حديث الرفع ورفعه تشريعاً، يعني يقول بأنّ ترك الطلاق لا يترتب عليه أثره الذي هو بقاء الزوجية، فينتفي بقاء الزوجية.
ويرد على هذا الوجه ملاحظة على أصل افتراض أنّ بقاء الزوجية أثر شرعي يترتب على ترك الطلاق، هذا ليس واضحاً، والظاهر أنّ الأمر ليس هكذا؛ لأنّ بقاء الزوجية مترتب على العقد، فالعقد نفسه كما يقتضي الزوجية حدوثاً، يقتضي الزوجية بقاءً. نعم، هذه الزوجية ترتفع برافعٍ، فيقطعها الطلاق بلا إشكال، لكن ليس معنى ذلك أنّ بقاء الزوجية مستند إلى عدم الرافع؛ بل أنّه مستند إلى مقتضيه، وهو العقد الذي صدر سابقاً منه، فأنّ هذا العقد كما يقتضي الزوجية حدوثاً هو يقتضيها بقاءً واستمراراً، فلا نستطيع أنْ نقول أنّ بقاء الزوجية مترتب شرعاً على عدم الطلاق؛ بل هو مترتب على العقد، وهو من آثار العقد شرعاً، وليس مترتباً شرعاً على عدم الطلاق. نعم، الطلاق رافع له، لكنّ الشيء لا يترتب على عدم رافعه، وإنّما يترتب على وجود مقتضيه، ومقتضيه هو عبارة عن العقد الصادر سابقاً. إذن: أصل فكرة أنّ بقاء الزوجية مترتب على عدم الطلاق ليست واضحة.
ومن جهة أخرى، وهي الأخيرة، وبهذا نختم البحث، لو سلّمنا أنّ بقاء الزوجية مترتب على عدم الطلاق، لكن نسأل: هل أنّ بقاء الزوجية ـــــ مع التنزّل ـــــ مترتّب على عدم الطلاق بما هو عدم نعتي كما تقدّم سابقاً ؟ أو بما أنّه عدم محمولي ؟ يعني هل هو مترتب على عدم الطلاق بما هو صفة للمكلّف ومنتسب إليه، أو أنّه مترتّب على ذات عدم الطلاق ؟ الجواب أنّه لو سلّمنا الترتب، فبقاء الزوجية مترتب على ذات عدم الطلاق، لا بما هو منتسب إلى المكلّف؛ بل على ذات عدم الطلاق، وبأي سبب حصل يترتّب عليه بقاء الزوجية، عدم الطلاق لو صدر نسياناً، أو غفلة، أو اضطراراً، أو إكراهاً ....الخ يترتب عليه بقاء الزوجية. إذن: هذا أثر ـــــ لو سلّمنا أنّه اثر ـــــ لذات عدم الطلاق، لا لعدم الطلاق بما هو منتسب إلى المكلّف، وقد تقدّم سابقاً أنّ مثل هذه الآثار لا يشملها حديث الرفع، فالصحيح هو عدم إمكان إجراء حديث الرفع في مثل هذه الحالة.
وبهذا يتم الكلام عن كل الجهات المرتبطة بفقه حديث الرفع. وبهذا ننهي الكلام عن حديث الرفع كدليلٍ من أدلّة البراءة.