39/07/29
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
39/07/29
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 51 ) وقوع البيع بالمعاطاة - المكاسب المحرّمة.
المطلب الثالث:- ذكرنا فيما سبق أنَّ المعاطاة يمكن التمسك لإثبات صحتها وأنها تفيد الملك من خلال السيرة ، ولكن بالتالي أيَّ سيرة نتمسّك بها فهل كلتا السيرتين أو أحداهما بخصوصها ؟
الأنسب التمسّك بسيرة العقلاء لا سيرة المتشرعة ، فإنَّ المتشرعة كزرارة وغيره وإن كانت جارية على التعامل بالمعاطاة ولا نحتمل أنَّ جميع معاملاتهم مبنيّة على القعد اللفظي ولكن نحتمل أن سيرتهم هذه ناشئة من جذور عقلائية لا شرعية ، لأنَّ الحيثية العقلائية تقتضي ذلك - يعني التعاقد بالمعاطاة - ، فإذن هذه السيرة لا يمكن أن نجزم بكونها سيرة متشرعة بما هم متشرعة فإنَّ الجزم بذلك شيء مشكل ، بل يحتمل أنها سيرة بما هم عقلاء ، وهذا الاحتمال يكفينا في أن نرفع اليد عن كونها سيرة متشرعة ، وبهذا سوف لا يأتي إشكال الشيخ الأعظم(قده) من أنه يحتمل أنها ناشئة من تسامح فإنَّ سيرة المتشرعة يحتمل فيها ذلك دون العقلاء ، وهكذا إشكال السيد الخوئي(قده) على السيرة[1] لأنه مبني على أنها سيرة متشرعة وقد عرفنا أنه لا يمكن الحكم عليها بكونها سيرة متشرعة بل يلزم التعامل معها كسيرة عقلاء ، فحينئذٍ لابد من ملاحظة أنه يوجد رادع عنها أو لا ن وقد قلنا إن الرادع ليس بثابت ، وقد قلنا لا أقل النتيجة أنَّ الرادع لابد أن يكون مساوياً للمردوع من حيث القوّة ، هكذا أجبنا من جلمة الأجوبة ، وهذا ليس بمهم.
والذي نريد أن نقوله:- إنه ربَّ قائل يقول: إنَّ هذه السيرة ولنفترض أنها بحسب النتيجة سيرة عقلاء هي مردوع عنها أو لا يمكن الأخذ بها لوجود إجماع قد ادّعاه السيد ابن زهرة(قده) كما نقل ذلك الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب ، ومع وجود الاجماع كيف يؤخذ بالسيرة المذكورة ؟!! بل لا أقل تصير السيرة معارضة أو مردوع عنها من خلال هذا الاجماع ، ولو كانت سيرة عقلاء فمع وجود الاجماع كيف يؤخذ بالسيرة .
وهذا إشكال واقعي لابد من علاجه ، فلابد من علاج الاجماع وإلا فسوف يقف أمامنا سداً مانعاً من الأخذ بالسيرة أو بغيرها من الأدلة الأخرى التي نريد أن نتمسّك بها فيما بعد.وفي الجواب نقول :-أوّلاً:- إنَّ هذا الاجماع لم يثبت من الأساس ، فإنه ادّعي في كلمات ابن زهرة(قده) ولكن إذا لاحظنا واقع الحال فإنه يصعب تحصيل الاجماع ، إذ الشيخ المفيد(قده) له عبارة إما واضحة في أنَّ المعاطاة تفيد الملكية أو أنها مجملة ، فرأيه ليس بواضح ومع عدم وضوح رأيه كيف يدّعى الاجماع ، قال(قده):- ( والبيع ينعقد عن تراضٍ بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعا وتراضيا بالبيع وتقابضا وافترقا بالأبدان )[2] ، فإذن هو لم يشترط الصيغة فيمكن أن يقال إنَّ عبارته واضحة في امضاء وتصحيح المعاطاة.
هذا مضافاً إلى أنه لابد من تحصيل آراء بقية الأعلام ، يعني لا يمكن أن نجعل الشيخ الصدوق(قده) في جانب والشيخ الكليني(قده) في جانب وغيرهما في تلك المرحلة الزمنية في تلك الطبقة في جانب ونأخذ فقط بكلام الشيخ الطوسي(قده) الذي أبطل المعاطاة وابن ادريس فما دون ، بل المهم هو المرحلة المتقدّمة وتلك المرحلة لم يثبت رأيهم ، فكيف يدّعى الاجماع إذن ؟!!ثانياً:- بقطع النظر عمّا ذكرناه أوّلاً يمكن أن يقال: إنَّ هذا الاجماع معلّل - يعني ذكرت له علّة - ، يعني أنَّ الفقيه حينما يذكر رأيه ويقول بعدم صحة المعاطاة يعلّل وإذا كانت المسألة اجماعية فلابد من حذف التعليل ، لأنَّ الاجماع الحجة هو ما يصل يداً بيد ويكشف يداً بيد عن رأي المعصوم عليه السلام ، أما إذا ذكرت نكتة وعلّة فهذا معناه أنّ المستند هو تلك العلّة وليس وصول رأي الامام عليه السلام يداً بيد ، فإذا لم يصل فلا مثبت لكونه وصل يداً بيد ، فلا يكون حجّة ، فلاحظ عبارة الشيخ الطوسي وابن إدريس ، قال الشيخ الطوسي(قده) في الخلاف:- ( إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب فقال اعطني بقها بقلاً أو ماءً فأعطاه فإنه لا يكون بيعاً وكذلك سائر المحقّرات وإنما يكون إباحة له .......دليلنا إنَّ العقد حكم شرعي ولا دلالة في الشرع على وجوده هنا فيجب أن لا يثبت وأما الاباحة بذلك فذلك مجمع عليه لا يختلف العلماء فيها )[3] ، وهكذا في السرائر فإنه قال:- ( إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب فقال اعطني فإنه لا يكون بيعاً ولا عقداً لأن الايجاب والقبول ما حصلا )[4] ، فهو أيضاً لم يعلل بأنَّ القضية اجماعية وإنما بيّن نكتةً وهي أنَّ الايجاب والقبول اللفظيين لم يحصلا ، فإذن هذا الاجماع لا يمكن الاستناد إليه حتى لو تمت صغراه لأنه معلّل ، ومتى ما علّل فسوف نحتمل أنه لم يصل من الامام عليه السلام يداً بيد وإنما هو نتيجة هذه التعليلات ، ومعه تعود القيمة للتعليلات وليس إلى الاجماع ، فإذن الاجماع لا يمكن أن يقف أما السيرة أو غيرها من الأدلة التي سوف نذكرها.
وبهذا ينتهي حديثنا عن الدليل الأوّل على صحة المعاطاة ، وأعني بذلك السيرة.والخلاصة:- أنه لا باس بالتمسّك بالسيرة ولكن كسيرة عقلائية لا شرعية ، والردع قابل للمناقشة لا أقل من جهة أنَّ الردع لابد أن يعادل المردوع من حيث القوّة.
الدليل الثاني:- قوله تعالى ﴿ أحلّ الله البيع ﴾[5] ، بتقريبٍ يتركّب من مقدمتين:-
الأولى:- إنَّ الحلّ إذا نسب إلى الفعل الخارجي كالأكل والشرب والنوم واللعب والسفر وغير ذلك فهو ظاهر عرفاً في الحلّ التكليفي ، فحينما يقال يحلّ لك الأكل أو الشرب فهذا ظاهر في الحلّ التكليفي ، وأما إذا نسب إلى الأمر الاعتباري فهو ظاهر عرفاً لا في الحلّ التكليفي بل ظاهر في الحلّ الوضعي أعني الامضاء والصحة ، وفي الآية الكريمة نسب الحلّ إلى البيع والبيع اعتبار ولا نحتمل أنَّ هذا الاعتبار بما هو اعتبار محرّم ، فالحلّ التكليفي غير محتمل ، فيتعين أن يكون المقصود هو الحلّ الوضعي أعني النفوذ والصحة والامضاء.
الثانية:- إنَّ البيع لم يقيّد بقسمٍ دون آخر ونوع دون نوع وفرد دون آخر فيدلّ ذلك على الاطلاق وأنَّ كلّ بيعٍ قد أحلّه الله تعالى ، وبإطلاقه يشمل المعاطاة ، فالمعاطاة تكون مشمولة للآية الكريمة للحلّ الوضعي من جهة الاطلاق حيث لم يقيد البيع بفردٍ دون آخر.
ومن مجموع هاتين المقدمتين يثبت أنَّ البيع بجميع أفراده ومنه المعاطاة ممضىً ، وليس المقصود الحلّ التكليفي وإنما الحل الوضعي وهو الامضاء ، وبذلك يثبت المطلوب بطريقٍ قصير.بل يمكن أن نصعّد اللهجة ونقول:- إنه حتى لو فرض أنَّ المقصود من الحلّ هو الحلّ التكليفي ولكن يمكن رغم ذلك يمكن التمسّك بالآية الكريمة لإثبات إمضاء المعاطاة ، وذلك بأن يقال: إنَّ هذا الحلّ التكليفي حينما نسب إلى البيع لا يكون له معنىً إذ البيع هو اعتبارٌ واثبات الحلّية التكليفية له لا معنى له ، إذ لا يحتمل أن يكون الاعتبار في حدّ نفسه محرّماً ، فلابد وأن يكون هذا الحلّ التكليفي منسوباً للآثار المترتبة على البيع ، يعني التصرّف في المبيع بأكلٍ وشربٍ وبيعٍ اجارةٍ وإتلافٍ وغير ذلك ، فننقل الحلّ التكليفي من كونه ثابتاً للاعتبار - أعني البيع - بالقرينة التي أشرنا إليها[6] إلى الآثار ، فإذا ثبت هذا فنقول إنَّ حلّية جميع الآثار تكليفاً بعد تحقق البيع الذي من أحد مصاديقه المعاطاة يدلّ بالملازمة على أنَّ نفس البيع قد أُمضِي وحُكِم عليه بالصحة والحلّ والوضعي ، فإذن من الحلّية التكليفية انتقلنا إلى الحلّية الوضعية ، وهي طريقة ظريفة.
وكأنَّ الشيخ الأعظم(قده) كان ملتفتاً إلى هذا فأجاب عنه وقال:- إنَّه يمكن أن نفترض أنَّ الآثار المترتبة على البيع من أكلٍ وشربٍ وغير ذلك هي حلال تكليفاً ومع ذلك لا يلزم إمضاء البيع من حين تحققه ومن حين صدوره ، فإنه يمكن أن نفترض أنه يحصل النقل والانتقال قبيل التصرّف بآنٍ ما ، يعني أنَّ تصرفك يكشف عن حكم الشارع بحصول النقل والانتقال قبيل التصرّف بلحظة من باب توقّف هذه التصرّفات على الحلّ الوضعي والنقل والانتقال ، فحلّية هذه التصرفات تكشف عن حصول النقل والانتقال قبيل هذه التصرفات بآنٍ ما ، فإذا قبلنا بهذا فلا يثبت بذلك أنَّ المعاطاة كانت صحيحة من حين تحققها ، كلا بل هي ليست بصحيحة وإنما لا يترتب عليها الأثر إلى أن يريد الطرفان أو أحدهما التصرّف ، فبمجرّد أن يريد أحد الطرفين التصرّف ينكشف تحقق النقل والانتقال والامضاء الشرعي بآنٍ ما قبيل التصرّف.
وفكرة حصول الملكية بآنٍ ما قبيل التصرّف قد ذكرت في باب العتق ، فإنه إذا أراد الشخص أن يعتق أحد العمودين والمفروض أنه ( لا عتق إلا في ملك ) وهذا الشخص لا يمكن أن يتملّك العمودين فجمعاً بين الأدلة قيل يملكهما آناً ما قبل حصول العتق ، فهنا أيضاً يمكن أن نقول بذلك.
وإذا قال قائل للشيخ الأعظم(قده):- إنَّ هذا احتمال ، وهل نتوقّف لأجل الاحتمال ؟
قلنا:- إنَّ قاعدة ( إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ) وإن لم تكن تامة بعرضها العريض ولكنها تامة في مساحة معينة ، ولا يمكن أن نضبط تلك المساحة ولكن هذا من أحد الموارد ، لأننا نريد أن نثبت أنَّ المعاطاة صحيحة من البداية ولكن لا يمكن أن تثبت أنها صحيحة من البداية مادام يحتمل أنَّ النقل والانتقال يحصل قبيل التصرّف بآنٍ ما ، فلا يمكن أن نجزم بأنها صحيحة من حين تحقق المعاطاة.
فإذن لا يمكن أن نقول إنَّ الآية الكريمة تدل على صحة المعاطاة حتى بناءً على إرادة الحلّ التكليفي ، قال(قده):- ( إنَّ الجمع بين اباحة هذه التصرّفات وبين توقفها على الملك يحصل بالتزام هذا المقدار ولا يتوقف على الالتزام بالملك من أوّل الأمر ليقال إنَّ مرجع هذه الاباحة أيضاً إلى التمليك )[7] .
ويردّه:- إنه تارةً نريد أن نتمسّك بملازمة عقلية ، وأخرى نتمسّك بملازمة عرفية ، فإذا كانت الملازمة عقلية فالحق مع الشيخ الأعظم(قده) ، فإنه عقلاً يحتمل أنَّ الملكية تثبت قبيل التصرّف بآنٍ ما ، أما إذا كان المقصود هو الملازمة العرفية بأن يدّعى أنَّ العرف يفهم من حلّية جميع التصرفات المترتبة على المعاطاة أنها صحيحة فلا معنى لما ذكره ، فإنَّ هذا فهم وملازمة عرفية ، ولذلك أنت لا تقبل من الشيخ الأعظم(قده) هذا الاحتمال الذي ذكره ، وسببه أنَّ الجنبة العرفية عندك فعّالة وأنت ناظر إلى الملازمة العرفية ، فبعرفيتك تشعر بوجود الملازمة ، بينما الشيخ أعمل الدّقة العقلية ، وأحياناً لا يكون تطبيق الدقة العقلية محبّباً ، وهذا المورد من الموارد التي لا يكون تطبيقها محبّباً ، فإذن الملازمة عرفية ، وعليه فلا إشكال من هذه الناحية.