39/05/17
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
39/05/17
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 45 ) بعض مستحبات التجارة - المكاسب المحرّمة.
والكلام يقع تارة في الدلالة وأخرى في السند:-
أما الدلالة:- فهناك فارق بين هذه المورد وسابقه ، فإنه في بيع حاضر لبادٍ الذي هو السابق الرواية كانت تعبر بالنفي لا بالنهي لأنَّ التعبير الوارد في رواية عروة مثلاً: ( لا يبيع حاضر لباد والمسلمون يرزق بعضهم بعضاً ) ، ورواية جابر أيضاً ورد فيها: ( لا يبيع حاضر لباد ) ، فإذن الوارد هو النفي دون النهي وربما يتوقف في دلالة النفي على التحريم كما توقف النراقي ، بيد الوارد هنا صيغة النهي لأنَّ التعبير الوارد في الروايات الأربع كالرواية الأولى حيث قالت:- ( لا تلق فإنَّ رسول الله عليه وآله نهى عن التلقي ) ، وهكذا في الرواية الثانية حي قالت:- ( لا تلق ولا تشتر ما تلقي ) ، فإذن يوجد في الرواية نهي وهو دال على التحريم ، وهو أيضاً انشاء بالصيغة وليس بالمادّة بنحو الإخبار حتى يرد ما كنّا نشكل به سابقاً من أنَّ ( نهى ) إخبارية وهي لا تدل على الإلزام وإنما هذه صيغة نهي.
فإذن يمكن أن يقال بدلالة رواية تلّقي الركبان على التحريم فإنَّ الوارد هو صيغة النهي بنحو الإنشاء وليس جملة خبرية ، فإذن لا مشكلة.
ولكن يوجد شيء:- وهو أنَّ الرواية قالت بعد ذلك:- ( ولا تشتر مما تلقي ) ، بل ورد أيضاً تعبير ( ولا تأكل مما تلقي ) فقد يقال إنه هذا يضعّف الدلالة على التحريم ، لأنَّ تلقي الركبان افترض أنه محرّم ونفس الشراء من الركبان الذين تلقيناهم محرّم ولكن هذا لا يوجب بطلان المعاملة ولا يوجب حرمة المال المشترى حتى ينهى عن أكله ، فعلى هذا الأساس هذا قد يزعزع دلالة صيغة النهي على التحريم.
اللهم إلا أن تدافع وتقول:- صحيح إنَّ نفس الشراء هو حرام ولكن من البعيد أن يكون فاسداً ، فالأكل منه لا مشكلة فيه ولكن يمكن أن يقال إنه كما نُهِيَ تكليفاً عن التلقي فهناك نهي تكليفي أيضاً عن الأكل حتى نضيّق من دائرة التلقّي ونمنع الناس من التلقي فنحرّم التلقّي كحرمة تكليفية ونحرّم الشراء مما تلقّي بل والأكل منه وهذا من باب الحرمة التكليفية فقط لا من باب أنَّ الشراء فاسد حتى تقول إنَّ هذا مخالف لمرتكزات الفقهاء والمتشرّعة ، كلا وإنما هناك حرمة تكليفية فقط حتى نضيّق من هذه الناحية وبالتالي يمتنع الناس من الاقتراب من قضية تلقي الركبان ، وعلى هذا الأساس تبقى دلالة النهي ( لا تلق ) على التحريم وجيهة من دون وجود ما يزعزعها ، فإذن الدلالة على التحريم يمكن تتميمها بما أشرنا إليه ، وإنما الكلام في السند.
وأما السند:- فقد ذكرنا أنه توجد أربع روايات رواها منهال وهو مجهول الحال ، ومن المحتمل أن تكون كل هذه الروايات راجعة إلى رواية واحدة لكن مع اختلاف جزئي ، ومعه يكون البناء على تعدّدها حتى تحصل الاستفاضة مثلاً أمر مشكل بعد أن كانت وحدتها شيئاً وجيهاً.
وهكذا الرواية الخامسة - أي رواية عروة بن عبد الله - فهي ضعيفة أيضاً ، فعلى هذا الأساس توجد عندنا روايتان في هذا المجال لا خمس روايات ، فإذن الأمر مشكل من حيث السند.
مضافاً إلى ذلك إنَّ المشهور على ما نقل صاحب الجواهر(قده) هو الكراهة حيث قال:- ( إنَّ الكراهة هي المشهور بين الأصحاب بل عن بعضهم ما يظهر منه الاجماع عليه )[1] ، ثم نقل بعض من يظهر منه الخلاف ولكن المشهور هو الكراهة ، فعلى هذا الأساس المصير إلى الاحتياط بالترك شيء حسن ، وهل الاحتياط بالترك بنحو الاستحباب أو بنحو الوجب ؟ إنها متروكة للفقيه.
وقبل أن نختم حديثنا عن مسألة تلقي الكبان هناك بعض الفروع التر ترتبط بها وهي فروع متعدد أشار السيد الماتن(قده) إلى ثلاثة فروع منها:-
الفرع الأوّل:- هل المدار في كراهة أو حرمة التلقي على مقدار أقل من رَوحة - التي هي أربعة فراسخ - يعني يخرج خارج البلد بمقدار نصف فرسخ أو فرسخ أو فرسخين أو ثلاثة فراسخ أو أربة فراسخ إلا قليلاً فهذه كلّها مكروهة أو محرّمة - على الخلاف - وأما ما زاد على الروحة يعني أربعة فراسخ ومترين فبلا إشكال هذا ليس تلقّياً وإنما هو سفر للتجارة والروايات قد جوزته ، إنما وقع الكلام إذا فرض التلقي على رأس الرَّوحة فهنا هل هذه الحالة مشمولة للكراهة أو التحريم أو لا ؟ ، يعني هل يتبع الأقل من روحة في الكراهة والتحريم أو أنه يلحق بما هو أزيد من الروحة في ارتفاع الكراهة والتحريم ؟
ومنشأ هذا الخلاف هو أنَّ بعض الروايات يظهر منها الأول وبعضها الآخر يظهر منها الثاني ، فمثلا الرواية الأولى من الروايات الأربع قالت:- ( لا تلق فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله نعى عن التلقي ، قال وما حد التلقي ؟ قال: ما دون غدوة ، قلت: وكم الغدوة والروحة ؟ قال: أربعة فراسخ ، قال ابن أبي عمير : وما فوق ذلك فليس بتلقي ) ، فهي قالت إنَّ ما دون الغدوة هو تلقٍّ فيكون حراماً أو مكروها ، يعني على رأس الغدوة ليس تلقياً فلا يكون مكروها ولا محرّماً لو كنّا نحن وهذه الرواية.
لكن الرواية الرابعة من روايات منهال القصّاب قالت:- ( قلت له: ما حدّ التلقّي ؟ قال: رَوحة ) فإنَّ الروحة جعلها مصداقاً للتلقّي فتكون منافية للرواية الأولى ، وهذا نحو تعارضٍ بين روايتي منهال فإنَّ روايته الأولى تدل على أنَّ التلقي يكون بالأقل من الرَّوحة بينما هذه الرواية تدل على أنَّ التلقّي يصدق أيضاً بالرَّوحة فماذا نصنع في مثل هذه الحالة ؟
والجواب:- يمكن أن يقال: إنَّ الأولى صريحة في أنَّ التلقّي يكون باقل من رَوحة لأنه صرّح بذلك وقال: ( قال: وما حدّ التلقّي ؟ قال: ما دون غدوة وروحة ) ، بينما الرواية الرابعة قالت: ( قلت له: ما حدّ التلقي ؟ قال: رَوحة ) وهذه ليست صريحة في أنَّ الذهاب على رأس الرَّوحة يعدّ تلقياً بل فيها ظهور في ذلك ، وكلما اجتمع ظاهر وصريح وكانا متنافيين أُوِّل الظاهر لصالح الصريح ، فهنا نؤول الرواية الرابعة ونقول إنه حينما قال:- ( ما حدّ التلقي ؟ قال: رَوحة ) يعني أنَّ المقصود هو اخراج الحدّ من المحدود وليس الحدُّ داخلاً في المحدود[2] ، فنقول إنَّ هذه الرواية حينما قالت ( أربع فراسخ ) فهذا تعبير صحيح وعرفي ولكن بمعنى أنَّ الذي قبيل الأربعة هو من التلقّي وأما رأس الأربعة فهو خارج عن التلقي ولكن عرفاً لا بأس بأن يعبَّر بـأنَّ حدّ التلقي هو روحة أو أربع فراسخ فهذا تعبير لا بأس به ولكن بنحو خروج الحدّ عن المحدود ، كما لو قال شخص تعال لي في الساعة الثامنة فعرفاً يكون المقصود هو أنه تعال لي قبيل الساعة الثامنة بدقيقة مثلاً ومن وجيه أن نقول إنَّ الساعة الثامنة ليست داخلة وإنما المقصود هو أنه يأتي قبل الساعة الثامنة ، فإذا فرضنا أنه يوجد ما ينافي ذلك نؤوله وهذا وجيه ، أما إذا لم يكن هناك ما ينافي فحينئذٍ يكون الحدّ داخلاً في حكم المحدود ، ولكن هنا يوجد ما ينافي ، فحينئذٍ نؤول وهذا شيء وجيه ، وهو جمع عرفي لا بأس به ، فعلى هذا الأساس التلقّي يصدق على ما دون الأربع فراسخ ، وأما إذا كان أربع فراسخ فما فوق فلا محذور فيه ، فإذن رأس الحدّ ليس ملحقاً بالكراهة أو الحرمة.
الفرع الثاني:- هل يلزم قصد الخروج للتلقي ؟
إنَّ هذا هو القدر المتيقن ، يعني لو فرض أنا خرجنا من بلدنا بقصد التلقّي فهذا هو القدر المتيقن ، أما لو فرض أنا خرجنا لقضية ثانية وحينما وصلنا إلى مقصدنا وأنهينا عملنا رأينا أشخاصاً من البادية يعرضون بضاعتهم ، فإذا أردنا أن نشتري تلك البضاعة منهم فهل يكون هذا مشمولاً للتلقي وبالتالي يكون مشمولاً للكراهة أو التحريم ؟
يمكن أن يقال:- إنَّ الروايات التي نهت عن التلقي وأخذت مادّة التلقّي وقالت ( لا تلق ) كالرواية الأولى حيث قالت: ( لا تلق فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن التقي ) ، وهكذا الروايات الأخرى ليس من البعيد أنَّ ظاهر التلقي المنهي عنه فيها ما كان مع القصد أما إذا لم يكن كذلك فلا يكون مشمولاً بالنهي ، وهذا تمسّك بظهور مادّة التلقي فإنها ظاهرة في اعتبار القصد.
ولكن ربما يقال:- إنَّ العلّة التي ذكرت هي: ( دع الناس يرزق بعضهم بعضاً ) وهي تعمم النهي لمثل هذه الحالة ، لأني إذا اشتريت هذه البضاعة فحينئذٍ سوف تأتي النكتة المتقدّمة وهي أنَّ هذا المشتري سوف يتحكّم بالأسعار أو غير ذلك ، فالنكتة للمنع في حالة قصد التلقّي تأتي أيضاً في حالة عدم قصد التلقّي فعلى هذا الأساس تحصل معارضة.
وألفت النظر إلى أننا قلنا إنَّ مادة التلقّي ظاهرة في اعتبار القصد والآن نضيف شيئاً ونقول:- إنه حتى إذا شككنا وتأملنا في هذه القضية لكن نقول يكفينا الاجمال من هذه الناحية - يعني أن التلقّي يصدق في حالة عدم القصد أو لا وظاهر في اعتبار القصد أو لا ؟ فالشك يكفي لنفي التعميم - إذ بالتالي نقول إنَّ حالة القصد لا نجزم بمشموليتها للنهي فنجري أصل البراءة عن الكراهة أو الحرمة.
فإذن نحن في غنىً عن دعوى الظهور ، فنحن إما أن قبلنا الظهور فبها ونعمت ، أو لا أقل هي مجملة ، فإذا صارت مجملة فسوف نتمسّك بالقدر المتيقن وهي حالة القصد ، أما في حالة عدم القصد فنتمسّك بأصل البراءة ، وهذ طريقة فنّية ، من هذه الناحية قلنا بأنه قد يقال بعدم الحرمة أو الكراهة إذا لم يكن هناك قصد لكن يعارض بالتعليل وأنَّ التعليل عام يشمل كلتا الحالتين القصد وعدم القصد.
وفي الجواب نقول:- إنَّ هذا وجيه إذا فرض أنَّ هذا التعليل كان راجعاً إلى الاثنين معاً دون ما إذا كان راجعاً لتوكّل حاضرٍ لباد فقط ، لأنَّ الرواية التي ذكرها الشيخ الكليني(قده) جمعت بين الاثنين معاً[3] حيث قالت:- ( لا يتلقى أحدكم تجارة خارجاً من لمصر ولا يبيع حاضر لباد والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض ) ، فهذا التعليل لعله يرجع إلى ( ولا يبيع حاضر لباد ) يعني إلى الفقرة الأخيرة لا إلى الاثنين معاً ، وعليه فسوف يكون مجملاً ولا ظهور في رجوعه إلى الفقرة الأولى ، وإذا لم يكن فيه ظهور في الرجوع إلى الأولى وإنما كان مجرّد احتمال وجيه فيبقى ما أشرنا إليه بلا معارض وهو أنَّ مادة التلقّي ظاهرة في اعتبار القصد ولا أقل هي مجملة من هذه الناحية فتبقى هذه بلا معارض.
هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال:- إنَّ هذا التعليل صالح للتعميم لحالة عدم القصد لا أنه ظاهر فيه ، فهو ليس فيه ظهور في التعميم لحالة عدم القصد وإنما غاية ما هناك هو أنه يلتئم مع حالة عدم القصد أيضاً ، فعلى هذا الأساس يبقى ما ذكرناه أوّلاً أشبه بالمقتضي للاختصاص بحالة القصد وهذا التعليل يصير بمثابة غير الآبي عن الخصيص فهو صالح للاختصاص بحالة التلقّي وصالح للتعميم ، فهو صالح للعمومية ولكن لا يأبى عن اختصاصه بحالة القصد فيبقى الدليل الأوّل - وهو ظاهر مادّة التلقي في اعتبار القصد - مقدّماً ، فإنَّ المورد يصير أشبه بالتزاحم بين ما فيه اقتضاء التخصيص وبين ما لا يأبى عن التخصيص والتعميم فإنَّ ما يقتضي التخصيص يكون مقدّماً على ما لا يقتضي التعميم ولا التخصيص.