38/08/10
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/08/10
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.
وفيه:-
أوّلاً:- إنه ذكر أنَّ الآية الكريمة فيها اطلاق يشمل حتى حالة استلزام الصلح للكذب وأنا قلت عدّة مرات إنَّ السيد الخوئي(قده) يستعمل الاطلاق بدائرته الوسيعة فهو سهل المؤونة من هذه الناحية وهذا المورد من أحدها ، فهو قال هنا يوجد اطلاق والحال أنه يمكن أن يقال إنَّ غاية ما نفهم أنَّ الاصلاح لازم أو مستحب أما أنَّ الوسيلة التي تسلكها ما هي فالآية الكريمة ليست في مقام البيان من هذه الناحية وأن الوسيلة لا فرق أن تكون مباحة أو لا ، بل هي في مقام البيان من ناحية أنَّ الاصلاح قضيّة مطلوبة فقط أما أنه أي طريق نسلكه فهي ليس فيها دلالة عليه ، كما لو قلنا ( إذا جِعتَ فَكُل ) فيذهب الشخص فيسرق ويأكل فإنَّ هذا ليس بصحيح لأننا لسنا في مقام البيان من ناحية هذه الناحية بل نحن في مقام البيان من ناحية ( إذا جعت فكُل ) فقط ، أو مثل الآية الكريمة التي تقول ﴿ فكلوا مما أمكسن ﴾ أما أننا نأتي فنستدل بها على أنه لا يجب غسل موضع غضّة الكلب للحيوان فهذا باطل ولا معنى له كما ينسب ذلك إلى الشيخ الطوسي(قده) فإنَّ الآية الكريمة في مقام البيان من ناحية أنه لا يحتاج إلى التذكية بل تكفي عضّة الكلب أما أنَّ موضع العضّة يجب غسله أو لا فهي ليست في مقام البيان من ناحيته ، وهنا أيضاً كذلك ، وهذا ينبغي أن يكون من الأشاء الواضحة.
ثانياً:- إنَّه ذكر أنَّ الطائفة الثانية هي عمومات حرمة الكذب ، وهذه قضيّة قد تقدمت الاشارة إليها وأنَّ تحصيل عمومٍ ليس بذلك الأمر السهل ، وغريبٌ أنَّ الفقهاء تمسّكوا بهذه العمومات والمطلقات ولكنهم لم يؤسسوا العموم أو الاطلاق الواضح في المرحلة السابقة وكان عليهم أن يأتوا بالإطلاق أو العموم الواضح حتى حينئذٍ نتمسّك به ونحن شككنا فيما سبق في وجود الاطلاق ، نعم في بعض الموارد يمكن إلغاء خصوصية المورد كما فعلنا في مورد الهزل ، فصحيحٌ أنَّ النصوص واردة في أنه يحرم الكذب عن جدٍّ ولكن نلغي هذه الخصوصية لأنَّ العرف لا يفرّق بين الموردين كما ذكرنا في بيان قد تقدّم ، أما هنا - أي الكذب في الاصلاح - فإلغاء الخصوصية شيءٌ مشكل.
ثالثاً:- إنه ذكر أنه بعد لمعارضة يحصل تساقط فنرجع إلى عموم ( المصلح ليس بكذّاب ) ، ونحن نقول: إنَّ هذا ينبغي عدّه فرداً من الطائفة الأولى الدالة على جواز الكذب للإصلاح غايته بلسان الحكومة ولكن بالتالي هو يدل على جواز الكذب في مورد الاصلاح ، فعلى هذا الأساس ينبغي عدّه طرفاً للمعارضة لأنه ينفي الحرمة فيعارض حرمة عمومات الكذب ، فبالتالي لا معنى لكونه مرجعاً بل يكون من أحد طرفي المعارضة فإنَّ لسانه وإن كان لسان الحاكم إلا أنه بالتالي ينفي الحرمة فيكون كإحدى الطائفتين النافية للحرمة عن الكذب حالة المصلحة.
رابعاً:- نتمكّن أن نقول إنَّ حديث ( المصلح ليس بكذّاب ) مادام حاكماً فلا معارضة من الأساس ، وما ذكرته في الجواب الثالث كان مبنيّاً على تسليم المعارضة فنقول حينئذٍ إذا سلّمت المعارضة فهذا الحديث يكون من أحد طرفي المعارضة ، والآن نقول: هو أصلاً ليس من أحد طرفي المعارضة بل هو حاكمٌ وبالتالي يرفع المعارضة بين الطائفتين من الأساس ، فهو يقول إنه في الإصلاح لا يوجد كذبٌ أصلاً ، فعلى هذا الأساس لا معارضة بين الطائفتين مادام يوجد دليل حاكم على الطوائف فهو يرفع المعارضة من الأساس ولا معنى لكونه مرجعاً.
خامساً:- إنه قال: إنه سوف تتحقق المعارضة بين الطائفتين ، ونحن نقول: يمكن أن يقال إنَّ المورد ليس من العارضة بل من مورد المزاحمة ، وأحكام باب المزاحمة غير أحكام باب المعارضة كما هو واضح ، أما لماذا لا توجد معارضة بل هناك مزاحمة ؟ عرفنا في علم الأصول أنَ المعارضة تتحقق إذا كان التنافي والتكاذب في عالم الجعل والتشريع أما في مورد المزاحمة فلا يوجد تكاذب في عالم التشريع وإنما لا يمكن للمكلّف امتثالهما معاً لضيق القدرة ، وانا اعطيت مؤشراً وعلامةً ولا أريد أن أعطي فارقاً جديداً بل أريد أن أقول إنه أحياناً قد يخفى على الطالب أنه توجد معارضة في مقام التشريع أو أنه يوجد تزاحم في عالم الامتثال ، فنحن أعطينا علامة وقلنا إنه في باب المعارضة يوجد اتحاد بين العنوانين يعني أحدهما ينطبق على موضوع الآخر ولو انطباقاً جزئياً ، فإذا كان ينطبق عليه فحينئذٍ تتحقق معارضة ، أما إذا لم ينطبق عليه يعني أنَّ حمل هو هو ليس موجوداً وإنما هو من باب حمل المغاير على المغاير فهنا يصير تزاحماً بينهما وحينئذٍ نقول في مثل ( أكرم العالم ) و ( لا تكرم النجفي ) فهل توجد بينهما مزاحمة أو توجد بينهما معارضة ؟ نأتي فنطبّق ما ذكرناه ، فقد تقول: هما متكاذبان في عالم التشريع ، هذا مقبول ، ولكن قد يقول قائل: بل يوجد بينهما تزاحم ، فنقول له: إنَّه احياناً قد يكون النجفي مع العالم واحداً فأحدهما عين الآخر فأنت عالم وأنت نجفي ففي مورد الاتّحاد سوف يصير تكاذباً فأحد الدليلين يقول أكرمه والآخر يقول لا تكرمه فهذا تكاذب مع وحدة الموضوع فيصير التكاذب في عالم التشريع ، أما إذا لم يوجد اتحاد من هذا القبيل مثل ( صلِّ ) و ( وأزِل ) فهما لا يمكن أن يتحدا فلا يمكن أن تتحد الصلاة مع الازالة بأن تكون الصلاة هي إزالة والازالة تكون صلاة ، ولو قلت: نعم يمكن أن يتحدا وذلك بأن أزيل النجاسة أثناء الصلاة ، فنقول: إنَّه هنا لم تصر الصلاة نفس إزالة وإنما الازالة غير الصلاة ولكنك أوقعت الازالة أثناء الصلاة فالصلاة هي ليست نفس الازالة وليس بينهما اتحاد فلا يتحقق بينهما تعارض بل يتحقق بينهما تزاحم.
وتعال وطبّق هذا الميزان على موردنا لنرى هل يوجد اتحاد حتى يكون تعارضاً كما ذكر السيد الخوئي(قده) أو لا يوجد اتحاد حتى يصير تزاحماً ؟ فالعنوانان أحدهما الاصلاح والثاني هو الكذب وهل يوجد اتحاد بين الكذب وبين الاصلاح ولو في الجملة وبنحو العموم من وجه ؟ فإذا اتحدا فالحقّ مع السيد الخوئي(قده) ، ولكن يمكن أن نقول: بأنهما لا يتّحدان فإنَّ الكذب مقدّمة وسبب للإصلاح لا أنه نفس الاصلاح بل به يتحقق الاصلاح ، مثل دخول الأرض المغصوبة فإنه به يتحقق انقاذ الغريق وليس هو بنفسه انقاذ الغريق ، فإذن لا توجد بينهما معارضة بل يوجد بينهما تزاحم ، وإذا صار بينهما تزاحماً فمن المناسب أنه إن قلنا باستحباب الصلح - ﴿ إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم ﴾ - فتصير المزاحمة بين المستحبِّ وهو الاصلاح وبين الحرام وهو الكذب فمن المناسب أن يقدّم الأقوى وهو الحرام فنحكم بحرمة الكذب ، وإذا قلنا إنَّ الاصلاح واجبٌ كما هو ظاهر الآية الكريمة فتصير مزاحمة بين الواجب والحرام ولا نحتمل أهمية أحدهما فالمناسب هو التخيير.
البيان الثاني:- ما ذكره الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب وحاصله أن يقال: هناك نصوص كثيرة دلت على أنَّ الكذب جائز في باب الاصلاح وقد عقد لها صاحب الوسائل باباً خاصاً وهو الباب ( 141 ) من أبواب أحكام العشرة وقد ذكرنا بعض الروايات فيما سبق بمناسبةٍ منها ( ثلاثة يحسن فيهن الكذب المكيدة في الحرب وعدة الرجل زوجته والاصلاح ) ، وغالب الروايات الموجودة في هذا الباب سندها قابل للتأمل إلا أنَّ كثرتها يمكن أن يوجب الاطمئنان للفقيه بصدور هذا المضمون وثبوته وهو جواز الكذب في الاصلاح ، بل بعض الروايات صحيح السند ، وهي ما رواه محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد اله بن المغيرة عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( المصلح ليس بكذّاب )[1] وعلى منوالها غيرها ، إنَّ هذه الروايات إما أن نقول هي حاكمة فإنَّ ( المصلح ليس بكذّاب ) حاكم على دليل حرمة الكذب لأنها تقول إنَّ هذا ليس بكذب فتقدّم من باب تقديم الحاكم على المحكوم ، أو يقال إنَّ النسبة بينها وبين عمومات حرمة الكذب - لو كان يوجد عندنا عمومات - هي العموم المطلق فتخصّصها حينئذٍ من باب تقديم الخاص على العام ولا مشكلة.