38/07/19
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/07/19
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.
النقطة الرابعة:- تجوز التورية.
والمقصود من التورية واضح ، والشيخ الأعظم(قده) في المكاسب ذكر أمثلة متعددة لذلك لا حاجة إلى ذكرها ، إنما الكلام في وجه تخريج حلّيتها ، والوجه في ذلك: هو أنها لا يصدق عليها عنوان الكذب إما جزماً أو احتمالاً وكلاهما يكفي لنفي الحرمة عنها ، فإنا ذكرنا فيما سبق وجود احتمالين في المقصود من الكذب ، فهل المدار في الكذب على ظاهر الكلام بما يشتمل عليه من قرائن متصلة ، أو أنَّ المدار على المراد ؟ فإذا قلنا إنَّ المدار على ظاهر الكلام ففي موارد التورية يصدق عنوان الكذب ، فحينما يسألني صاحب الدار ويقول هل تناولت الغداء ؟ فأقول له نعم قد تغديت فظاهر الكلام أني تناولت الغذاء اليوم ولكني أقصد غداء أمس ، فحسب ظاهر الكلام هذا كذب إذا قلنا أنَّ المدار في الكذب على ظاهر الكلام ، أما إذا قلنا إنَّ المدار على المراد فمرادي حسب الفرض هو غداء الأمس فلا يصدق حينئذٍ عنوان الكذب ، والصحيح كما قلنا هو الاحتمال الثاني أي المدار على المراد ، وذلك لأنَّ الناس لو اطّلعوا على أنَّ مقصودي هو غداء الأمس فلا يقولون إنك قد كذبت بل يقولون إنك لم تكذب وهذا معناه أنَّ التورية ليست كذباً ولذلك يتراجعون ويعتذرون ، وهذا المطلب الذي ذكرناه وهو أنه إما أن تجزم بأن التورية عرفاً ليست كذباً أو أنه شيء محتمل بدرجة وجيهة ينفعنا على كلا التقديرين ، أما على التقدير الأوّل فواضح لأنه بناءً عليه تكون التورية خارجة تخصصاً من الكذب جزماً ، وأما على الثاني فيكفينا التردّد أيضاً حيث يصير مفهوم الكذب مجملاً ومع اجماله لا يمكن التمسّك بالعموم في موارد اجمال المفهوم فإنَّ كل دليل على أيّ حكم يقول أنا أثبت الحكم فقط ، فدليل حرمة الكذب يقول أنا أثبت الحرمة للكذب أما أنه في مورد التورية يصدق الكذب أو لا يصدق فهذه ليست وظيفتي ، فلذلك في موارد اجمال المفهوم لا يجوز التمسّك بإطلاق الدليل ، فإذن يكفينا الترد.
وبذلك يتضح النظر فيما ذكره غير واحد من الأعلام:- كمفتاح الكرامة وصاحب الجواهر حيث ذهبا إلى أنَّ التورية هي كذب موضوعاً أو حكماً ، ونصَّ عبارة مفتاح الكرامة:- ( والتورية والهزل من غير قرينة داخلان في اسمه أو حكمه )[1] ونفس هذا العبارة ذكرها صاحب الجواهر(قده)[2] أيضاً ، ومقصوده من قوله ( موضوعاً ) يعني أنَّ مفهوم الكذب صادق عليها ، وأما قوله ( حكماً ) يعني إذا لم تكن فرداً من الكذب موضوعاً ومفهوماً فهي كالكذب في الحرمة.
والاشكال عليه واضح في كلا الطلبين:-
أما الأوّل - وهو أنها هي كذب موضوعاً -:- فالمرجع كما ذكرنا في مثل هذه الأمور إلى العرف ، والعرف كما ذكرنا لا يرى أنها كذباً ، بدليل أنه لو اطلع على أنَّ الشخص قد ورَّى فإنه سوف يتراجع ويعتذر ويقول له أني اعتذر لأني نسبت إليك الكذب ولم أكن ملتفتاً .
أما قوله ( حكماً ):- فمن أين لك هذا ؟! فإنه إذا فرضنا أنها لم تكن فرداً من أفراد الكذب فلماذا تصير محرّمة ؟! لعلّه كما أنَّ الكذب فيه تدليس واغراء ومفاسد وغير ذلك فهذه الأمور نفسها موجودة في التورية ، ونحن نجيب:- بأنَّ هذه ليست علّة منصوصة حتى تطبَّق في سائر الموارد.
إذنَّ من هذه الناحية كلا المطلبين اللذين ذكرهما محل إشكال.
وأيضاً نضيف ونقول:- إنه حتى لو تردّدنا في أنَّ التورية كذباً أو ليست بكذب يكفينا التردّد لنفي الحرمة بالبيان الذي أشرنا إليه.
ونقل الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب عن بعض الأفاضل هذا الرأي أيضاً - وهو صاحب القوانين - حيث قال:- ( وذكر بعض الأفاضل أنَّ المعتبر في اتصاف الخبر بالصدق والكذب هو ما يفهم من ظاهر اللام لا ما هو المراد منه فلو قال رأيت حماراً واراد منه البليد من دون نصب قرينة فهو متصف بالكذب وإن لم يكن المراد مخالفاً للواقع )[3] .
والاشكال عيله أن يقال:- إنه إذا قال ( رأيت حماراً ) ونحن تصوّرنا أنه رأى حماراً بمعناه الحقيقي فننسب إليه الكذب لو لم يكن هناك حمار واقعاً ولكن هذه نسبة مادمنا لم نطّلع على مراده ، أما بعد أن نطّلع على مراده وأنَّ مقصوده كان هو الرجل البليد فهنا لا نبقى ننسب إليه الكذب ونقول له أنت كاذب بل سوف نتراجع ، ولا أقل يصير المورد فيه تردّد واشكال ، وحينئذٍ لا يصح التمسّك بهذا الاطلاق والتعميم.
النقطة الخامسة:- يجوز الكذب في موارد:-
المورد الأوّل:- دفع الضرر عن النفس أو عن مؤمنٍ آخر بل ويجوز الحلف كاذباً لدفع الضرر ، والدليل على ذلك:- هو أنه يمكن أن يتمسّك لذلك بالكتاب الكريم وبالروايات العامة والخاصة:-
أما بالنسبة إلى الكتاب الكريم:- فيكفينا قوله تعالى:- ﴿ من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾[4] ، بتقريب: أنَّ الآية الكريمة دلت على أنَّ من أُكرِه على الكفر ولكنه مؤمن قلباً فلا بأس وأن يُظهِر الكفر ، وهذا نحو من الكذب والآية الكريمة قد جوزته لأجل الاكراه يعني لأجل الضرورة ، فإذن دلالة الآية الكريمة على الجواز واضحة تقريباً.