38/05/20
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/05/20
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة
وفيه:- إنا نسلّم أنَّ عنوان الرشوة لا يصدق وبالتالي لا تكون الأدلة الدالة على حرمة الرشوة دالة بمضمونها المباشري والمطابقي على الحرمة لأنها مطابقةً ومباشرةً تدل على حرمة الرشوة ، ولكن لو أضفنا إضافةً وهي تنقيح المناط يعني إلغاء الخصوصية عرفاً فيمكن أن نعمّم الحرمة إلى ذلك ، فنقول صحيح أنَّ هذا ليس رشوة لغةً ولكن العرف يلغي خصوصية أن يكون الحكم بالباطل هو المقابل للأجرة فإنَّ هذا لا خصوصية له ، بل الحرمة بتنقيح المناط تشمل حالة ما إذا فرض أنَّ ذلك هدف أيضاً ، فإذن هذا يكون من الرشوة حكماً ومناطاً وإن لم يكن منها موضوعاً ، نظير ما إذا فرض أنَّ الامام قال:- ( اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ) فما هو الحكم في العباءة والعمامة وغير ذلك فهل يشملها الحكم أو لا ؟ إنه يشملها بتنقيح المناط وكلّنا نسلّم بذلك ، فحينئذٍ يلزم تطهير بقيّة هذه الأشياء رغم أنها لا يصدق عليها أنها ثوب ولكن مع ذلك الحكم يشملها بتنقيح المناط يعني إلغاء الخصوصية لهذا العنوان ، والعرف أيضاً يرى ذلك ، فالآن لو قلت لك هذه الهدية ليست بحرام فإنَّ تقبّل هذا يكون صعباً عليك لأنك تشعر بالوجدان أنَّ هذه الهدية دفعت لباطلٍ ولا فرق بين أن يكون الباطل عوضاً ومقابلاً بالأجرة أو يكون هدفاً وداعياً ، فمن هذه الناحية يمكن إلغاء الخصوصية ، فالتحريم يعمّ هذه الحالة أيضاً ، ولعله لأجل هذا قال الشيخ العظم(قده):- ( فالظاهر حرمتها لأنها رشوة أو بحكمها بتنقيح المناط )[1] ، وقوله هذا لا يبعد أن يكون إشارة إلى ما أوضحناه.
ثم إنه قد يذكر بنحو المؤيد روايات ثلاث لإثبات حرمة الهدية:-
الرواية الأولى:- ما تقدمت الاشارة إليها ، وهي رواية الأضبغ عن أمير المؤمنين عليه السلام:- ( أيّما والٍ احتجب عن حوائج الناس احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه وإن أخذ هدية كان غلولاً وإن أخذ رشوة فهو مشرك )[2] ، وموضع الشاهد هو ( وإن أخذ هديةً كان غلولاً ) والغلول هو خيانة ، وهذا التعبير لا يبعد أن يستفاد منه التحريم ، فإذن هي تدل على المطلب وأنَّ أخذ الهدية محرّم.
بيد أنه قد يشكل عليها بإشكالين:- وقد ذكر هذين الاشكالين الحاج ميرزا علي الايرواني(قده):-
الاشكال الأوّل:- إنها ناظرة إلى الوالي وليس إلى القاضي ، وعليه فسوف لا تنفعنا فإنَّ كلامنا في أخذ القاضي للهدية وليس في أخذ الوالي لها.
وفيه:- صحيح أنها ناظرة إلى الوالي لكنه بالتالي هو يأخذ الهدية بهدفٍ باطلٍ وإلا لو كان أخذها بهدفٍ صحيحٍ لم تكن غلولاً ، فإذا كانت هذه هي النكتة والحال أنَّ ذلك ليس فيه مخالفة لعنوان الحكم الشرعي فبالأولى تحرم - أو أقل لا فرق- فيما إذا كان الهدف من الهدية تغيير الحكم الشرعي كما إذا كان الدفع للحاكم ليحكم بالباطل فإنَّ هذا من المناسب أن تكون حرمته بالأولوية ، فأنا أدفع هدية للوالي لكي يعطيني قطعةً من الأرض أو غير ذلك أما القاضي فهو يغير حكم الله عزّ وجلّ ، فإما أنه لا فرق بينهما من هذه الناحية يعني نتمسّك بتنقيح المناط ، أو نقول ذلك بالأولى لأنَّ فيه تغيير لحكم الله عزّ وجلّ.
الاشكال الثاني:- هو أنها قالت ( وإن أخذ هدية ) يمكن أن نحملها على حالة الاكراه ، يعني وإن أخذ هديةً بنحو الاكراه ، فإذا كان بنحو الاكراه فهذا محرّم وخيانة وغلول بلا إشكال ، وعلى هذا الأساس سوف لا تنفع.
ومن الواضح أنَّ هذا الكلام بقطع النظر عن السند وأنه يشتمل على بعض المجاهيل بل كدلالة ، فنحن أردنا أن نذكرها كمؤيدٍ ، ولكنه(قده) سلب عنها المؤيدية لهذين الاشكالين.
وفيه:- إنَّ هذا خلاف إطلاق الرواية ، فإنَّ الرواية مطلقة من هذه الناحية فلماذا نقيدها ؟! ، اللهم إلا أن يكون مقتضى القاعدة هو الذي يجعلنا نغيّر في الرواية ونحملها على بعض المحامل ، يعني أنَّ الحاج ميرزا علي الايرواني هو بنى على أنَّ مقتضى القاعدة هو أنه يجوز للحاكم أن يأخذ الهدية لأنها هدية له وليست مقابل الحكم بالباطل نعم الداعي هو الحكم بالباطل ولكنها هدية له وليست مشروطة بشرطٍ محرّم فلا مشكلة فيها حينئذٍ فمقتضى القاعدة الجواز ، لذلك حمل هذه الرواية على حالة الاكراه.
وقد نبّهنا أكثر من مرّة على أنَّ هذه طريقة ليست بصحيحة ، فإنه لا ينبغي أن يكون مقتضى القاعدة مقيِّداً لنا ونترك الروايات أو نوجهها بشكلٍ يتلاءم مع مقتضى القاعدة فإنَّ هذه طريقة ليست بصحيحة كما قد نجدها في كلام صاحب السرائر(قده) وغيره من القدماء ، فالقاعدة عندهم محكّمة إلى درجة أنهم يخالفون النصّ وهذه طريقة غير صحيحة ، نعم إذا فرض أنَّ الحكم إذا كان بشكلٍ لا يمكن أن يلتزم به ، يعني إذا فرضنا أنَّ الهدية لا يمكن الحكم بتحريمها ، فإذا فرض هكذا ففي مثل هذا نؤول الرواية ونحملها على بعض المحامل ، أما إذا كان الحكم بالحرمة ممكناً فنقول بما أنك قاضي أو والي فلا يجوز لك أن تقبل المال بأيّ شكلٍ من الأشكال سواء كان هدية أو رشوة أو غير ذلك فإنَّ الشارع يريد أن يسدّ هذا الباب وهذا شيء وجيه ، نعم إذا جاءت رواية وقال ( لا يجوز لأيّ إنسان أن يتقبّل هدية وإذا تقبلها كان غلولاً ) فهي قالت ( أي إنسان ) فمثل هذا الحكم لا يمكن تقبّله فهنا نؤول الرواية ونحملها على بعض المحامل ، أما إذا كانت واردة في الوالي أو القاضي فلا بأس بأن يتحفّظ الشرع على هذين فيحكم بالتحريم وهذا شيء وجيه.
فإذن لا موجب لتقييد الرواية بأن نحملها على صورة الاكراه مثلاً ، وعلى أيّ حال لا بأس بالتمسّك بالرواية كمؤيدٍ وإن كان موردها هو الوالي ولكن بتنقيح المناط أو بالأولوية نتعدّى إلى القاضي كما أوضحنا.
الرواية الثاني:- ما رواه الطوسي في الأمالي:- ( هدية الأمراء غلول )[3] ، ودلالتها واضحة بناءً على أنَّ كلمة ( غلول ) تدل على الحرمة.
ولكن يمكن أن يشكل عليها:- بأن هذه الاضافة مردّدة بين أن تكون من باب الاضافة إلى المفعول أو من باب الاضافة إلى الفاعل ، والذي ينفعنا هو أن تكون الاضافة من باب الاضافة إلى المفعول ، يعني أنك تعطي هدية إلى الأمراء فإنه سوف يصير بمثابة المفعول به لأن الهدية سوف تقع عليه فهنا سوف تنفعنا الرواية ، ولكن يحتمل أن يكون المقصود هو أنَّ الهدية هي من باب الاضافة إلى الفاعل ، يعني إذا أهدى القاضي أو الأمير هديةً فهذا لا يقبل منه ، ومن الوجيه أنَّ هذا لا يقبل منه لأنَّ أمواله في الغالب مختلطة بالحرام فلأجل ذلك تكون غلولاً وخيانة.
فإذن هي لا تنفعنا مادام يحتمل أنها من باب الاضافة إلى الفاعل ، وكذلك سندها ضعيف فإنه في الأمالي يكون السند ضعيفاً عادةً ، ولكن يغضّ النظر عن السند توجد مشكلة في دلالتها إذا أردناها كمؤيد فلا تصلح للمؤيدية.
الرواية الثالثة:- ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا في تفسير ﴿ اكالون للسحت ﴾ قال:- ( هو الرجل يقضي لخيه الحاجة ثم يقبل هديته )[4] ، فهذه الرواية حرمت قبول الهدية وعدّته من أكّالي السحت ، فيثبت بذلك المطلوب.
ولكن حيث إنَّ السند ضعيف فهي تصلح للمؤيد فقط.
ولكن يردّه:- إنَّ مضمونها لا يمكن قبوله ، فلابد وأن نؤوّل الرواية أو نقول نردّ علمها إلى أهلها لأنها قالت:- ( هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديته ) ، كما لو قلت لك عندي قضية وأرجوا أن تقضيها لي وأنت قضيتها لي وأنا قدمت لك هدية فالرواية تقول هذا لا يجوز ، وهذا لا يمكن الالتزام به ، فلابد إذن من ردّ علمها إلى أهلها أو توجيهها ببعض التوجيهات - والتوجيه هو ردّ علمها إلى أهلها بتعبيرٍ آخر -.
فإذن لا يمكن الاستفادة منها في مقامنا ، خصوصاً وأنها ناظرة إلى الهدية البعديّة لا إلى الهدية القبليّة والالتزام بالحرمة في الهدية البعدية صعبٌ جداً ، نعم إذا ثبتت فيها الحرمة فبالأولى تثبت الحرمة في الهدية القبليّة ، ولكن الهدة البعديّة لا يحتمل أن تكون محرّمة ، فهذه الرواية لا يمكن الاستفادة منها حتى على مستوى المؤيد كالرواية السابقة عليها ، نعم الرواية الأولى فقط تصلح كمؤيد.
وبهذا ننهي حديثنا عن الهديّة للقضاة وقد عرفنا أنها محرّمة مادام الداعي هو الحكم بالباطل وإن لم يصرّح به.
المحاباة في المعاملة:-
قد يأتي القاضي إلى صاحب محلٍّ ويشتري منه حاجةً سعرها مائة دينا لكنه يبيعها له بسبعين ديناراً وهذا ما يعبّر عنه بالمحاباة يعني البيع بأقل من السعر ، وهذا له أشكال ثلاثة:-
الشكل الأوّل:- أن المعاملة لا تكون هدفاً أبداً وإنما هي جسر للوصول إلى الهدف والهدف والمقصد الأصلي هو أن يحكم له بالباطل ، فالبائع حينما أخذ من القاضي سبعين ديناراً فذلك يعني أنّه قد قدّم له ثلاثين ديناراً لأجل أن يحكم له بالباطل ، فتمام المقصد هو الأخذ بمقدارٍ أقل في مقابل أن يحكم له بالباطل.
وهذا الشكل ينبغي أن يكون محرّماً إذ هو نفس أن يدفع له ثلاثين في مقابل أن يحكم له بالباطل لكنه لم يدفع له الثلاثين وإنما أخذ منه سبعين مقابل السلعة التي تسوى مائة دينار فبالتالي هو قدم له ثلاثين في الحقيقة لكن في مقابل أن يحكم له بالباطل ، فإذن هذا ينبغي أن تكون حرمته واضحة لأنه بالتالي قد دفع له هذا المقدار من المال في مقابل أن يحكم له بالباطل ، فهذا محرّم لأنه يدخل تحت عنوان الرشوة موضوعاً لا أنه يدخل حكماً.
الشكل الثاني:- أن يفترض أن يكون كلّ منهما مقصوداً بنحو الاستقلال وبنحو العرضيّة ، يعني أنّ المعاملة في حدّ نفسها مقصودة والمحاباة أيضاً تكون مقصودة ، يعني كلّ منهما صالح في حدّ نفسه لأن يكون غرضاً مستقلاً ، فالمحاباة تكون مقصودة فهو يأخذ منه سبعين ديناراً في مقابل السلعة ولكن في مقابل أن يحكم له بالباطل.
وهذا تقريباً نفس الأوّل ولا فرق بينهما فيكون حراماً ولا فارق بينهما ، إلا أنه هناك افترضنا أنَّ المعاملة ليست مقصودة أما هنا فالمعاملة مقصودة وكلّ منهما مقصودٌ بنفسه.
الشكل الثالث:- أن نفترض أنَّ المحاباة مقصودة بنحو الهدف ، يعني هو يأخذ منه السبعين ويتنازل عن ثلاثين ليس في مقابل أن يحكم له بالباطل وإنما لأجل أن يستميل قبله وإذا استمال قلبه حكم له بما يريد ، وهذا يكون داخلاً تحت عنوان الهدية وقد عرفت أن عنوان الهدية محرّم.
إذن هذه أقسام ثلاثة المناسب في جميعها ثبوت الحرمة ، نعم ربما يتصوّر شخص أنحاءً أخرى ولكن هذه الأنحاء التي ذكرناها من المناسب أن تثبت فيها الحرمة ، ومن الواضح أنه على رأي الحاج ميرزا علي الايرواني(قده) يصير الثالث محلّلاً لأنه يبني على أنَّ الهدية جائزة.
هذا كلّه من حيث الحكم التكليفي ، يعني أنَّ المعاملة حرام تكليفاً ويعاقب عليها.