38/05/06
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/05/06
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.
مسألة ( 32 ): تحرم الرشوة على القضاء بالحق أو الباطل . وأما الرشوة على استنقاذ الحق من الظالم فجائزة وإن حرم على الظالم أخذها.[1]
..........................................................................................................
لا إشكال في حرمة الرشوة في الجملة ، وإنما الكلام في دائرتها سعةً وضيقاً ، فإنه إذا رجعنا إلى كلمات اللغويين وجدناها عائمة غائمة ، وإذا رجعنا إلى النصوص الشرعية فهي إما أن لا تذكر عنوان الرشوة بل واقع الرشوة كما سوف نلاحظ ، أو أنها تذكر عنوان الرشوة من دون تحديد ، ومن هنا يجدر التعرّف مسبقاً على بعض حدود الرشوة وأنها تشمل هذا المورد أو ذاك أو ذاك الثالث .... ، فنستعرض بعض الموارد بنحو الاجمال ، حتى إذا قرأنا كلمات اللغويين نجد أنها واضحة في الجواب عمّا نريد ، يعني هل هي تحدّد الرشوة أو لا تحدد ، وهكذا النصوص الشرعية.
ولدينا عدّة أسئلة:
من قبيل: إنَّ الرشة هل تختص بخصوص دفع المال للحاكم في باب الحكم والقضاء أو تعم الدفع إليه في حال آخر غير الحكم كما زماننا أنَّ صاحب الجوازات أو الجنسية لا يصدرها لي إلا أن أدفع له مبلغاً من المال وهذا ليس دفعاً على الحكم وإنما هو على شيءٍ غير الحكم ، وما شاكل هذا الكثير الكثير ، فهل هذا رشوة أو ليس برشوة ؟
ثم إنَّ ما يدفع ازاء الحكم هناك قدر متيقّن في كونه من الرشوة المحرّمة بلا إشكال هو أن يدفع مالاً إلى الحاكم ليحكم لصالحه بالباطل ، ولكن إذا كان قد دفع إليه ليحكم له ولكن لا بقيد بالباطل وإنما ليحكم لصالحه سواء كان ذلك الحكم حقاً أو باطلاً لا أنه يحكم لصالحه حتماً ، فهذا نحو ثانٍ فهل الرشوة المحرّمة تشمله أو لا ؟
ومن قبيل: أن أدفع له الأجرة على أصل الحكم ، فهو لا يقبل أن يحكم بين المتخاصمين فيدفعان له مالاً حتى يحكم بينهما بالحق لا أنه يحكم بالباطل فالأجرة تكون مقابل أصل الحكم ن فهل هذا رشوة أو ليس برشوة وهل هو محرّم أو ليس بمحرم ؟
ومن قبيل: أن ندفع إليه مقداراً من المال مقابل التصدّي لمنصب القضاء لا مقابل الحكم سواء أتى إليه الخصوم وحكم بينهم أو لم يأتوا ، بل يتصدّى لمنصب القضاء وحينئذٍ يدفع المال لأجل هذا ؟
والفارق بين هذا وبين ما سبق هو أنَّ ذاك كان دفع المال فيه على الحكم ، وأما هنا فدفع المال هو لأجل التصدّي للمنصب بأن يجلس في المحكمة ، فدفع الأجرة يكون هنا للتصدّي للمنصب.
ومن قبيل: ما يدفع بعنوان الارتزاق لا بعنوان الأجرة ، فالقاضي يعطى شيئاً من المال ليس بعنوان الأجرة وإنما بعنوان الارتزاق كي يعيش ، كطلبة الحوزة العلمية فإنَّ الذي يدفع من المال لهم ليس بعنوان الأجرة مقابل طلب العلم وإنما من باب أنه يصرف وقته في هذا المجال المقدّس فيدفع له المال كمساعدة لا بعنوان أنه أجرة على عمله ، بل عمله لا يُثمَّن وإنما هو لله عزّ وجلّ.
أو من قبيل: أن يدفع المال للحاكم بعنوان الهدية ، فلو دفع له أحد الطرفين مالاً بعنوان الهدية فهل هذا رشوة أو لا ؟ ، أو مثل المعاملة المحاباتية: بأن يشتري الحاكم منه شيئاً فيحسبه له بسعرٍ أقل ، وما شاكل ذلك .
هذه عدّة أمور هي محطّ نظرنا وبحثنا فيما بعد ، وأنا قد أشرت إليها الآن مجرّد إشارة.
والذي أقصده: هو أنه حينما نقرأ كلمات اللغويين ونقرأ النصوص لنلاحظ أنها واضحة في ذلك أو هي مجملة ؟ فإذا كانت مجملة وأنا أقول من الآن هي مجملة ماذا نصنع حينئذٍ ؟ والجواب: نقتصر على القدر المتيقن ، وهو ما يدفع مقابل الحكم بالباطل فإنَّ هذا هو القدر المتيقن من الرشوة المحرّمة وأما ما زاد على ذلك نجري عنه أصل البراءة إلا إذا انطبق عليه عنوان آخر من العناوين المحرّمة لا من باب أنه رشوة.
أما عبارات اللغويين: فمثلاً ورد في القاموس: ( الرشوة مثلثة: الجُعل )[2] وهكذا في لسان العرب[3] فسّرها بالجعل.
أقول: إنه بناءً على هذا وهو أنه إذا أردنا أن نفسّرها بالجعل سوف تصير حتى الأجرة في الموار العادية كما لو عملي شخص عملاً بأن لي شيئاً وأوصله إلى داري فهذا سوف يصير رشوة ، وكيف يصير هذا رشوة ؟!! إنَّ هذا التعبير وسيع جداً وفضفاض.
وأما في المصباح المنير فقال: ( الرشوة ما يعطيه الشخص الحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد )[4] ، وفي تاج العروس[5] نقل عن بعض اللغويين ذلك وقد نقل نفس عبارة الفيّومي التي ذكرناها فمقصوده من بعض اللغويين هو الفيّومي في مصباحه.
وفي الصحاح قال: ( الرشوة معروفة )[6] ، والنهاية قال: ( الرشوة: الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة ..... فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل )[7] .
هذه بعض كلمات اللغويين وقد اتضح حقانية ما نقول وهو أنَّ كلماتهم عائمة غائمة يعني لا يمكن تحديد الرشوة منها سعة وضيقاً نعم كما قلنا هناك قدر متيقن من الخارج وهو ما يدفع للحاكم ليحكم بالباطل.
وقبل أن ننقل الروايات الشريفة نسأل ونقول: هل يوجد في القرآن الكريم آية كريمة تدل على الرشوة ؟
لم أجد من يستدل بالقرآن الكريم قبل الشيخ الأعظم(قده) ، فلم يستدل صاحب الجواهر والمسالك وجامع المقاصد والحدائق ومستند الشيعة ومفتاح الكرامة وغيرهم ، بيد أنَّ الشيخ الأعظم(قده) قال: ( الرشوة حرام .... ويدل عليه الكتاب والسنَّة )[8] ، فهو استعرض الروايات فيما بعد أما الكتاب الكريم فلم يبيّن الآيات ، ولعلّ النكتة واضحة إذ لعل الكتاب الكريم ينحصر بآية واحدة وهي قوله تعالى: ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ﴾[9] ، والآية الكريمة كما نلاحظ لم تعبّر بكلمة رشوة ، فبناءً على دلالتها لم تذكر عنوان الرشوة وإنما قد يستفاد ذلك من تعبير ﴿ وتدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس ﴾ فتدلوا بها إلى الحكّام إشارة إلى الرشوة ، ومن الواضح أنَّ المعنى المطابقي لـ( وتدلوا بها إلى الحكّام ) ، والادلاء هو حبلٌ يمدّ في البئر ويربط بطرفه الأعلى كلاب والكلاب يرتبط بالبكرة الموضوعة على رأس البئر ، ويوجد كلاب آخر في الطرف الثاني للحبل يربط به الدلو ثم يأتي الشخص فيملأ الدلو حتى يخرج الماء ، فشبّه ما يدفع من رشوة إلى الحاكم بالحبل حيث يمدّ إلى الحاكم لكي يحصل في مقابل هذا الحبل الحكم له والمال الذي يعطى للحاكم هو بمثابة الحبل ، ففي البئر إذا مددنا الحبل نحصل على المال أما هنا فنحصل على الحكم بالباطل ، وبالتالي سوف نأكل فريقاً من أموال الناس بالباطل بسبب الرشوة ، فالرشوة صارت كالحبل في حصول شيءٍ في مقابلها كما يحصل بواسطة الحبل على الماء أي على الشيء المقصود ، كذلك بالرشوة يحصل الحكم بالباطل ، وبالتالي يأكل الراشي قسماً من أموال الناس بالباطل.
فيصير معنى الآية الكريمة بناءً على هذا هكذا: ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ﴾ وفريقاً يعني قسماً من أموال الناس ، فالآية الكريمة إذن تنطبق على الرشوة . هذا تقريب دلالة الآية الكريمة ولعلّه لوضوح المطلب لم يبيّن الشيخ العظم(قده) الآية الكريمة ولا تقريبها.
وفي المقابل قد يبرز احتمال آخر: وهو أنَّ الآية الكريمة بصدد قضية ثانية ، وهي أنه ربما يكون عند الانسان وديعة بأن يودع شخص قسماً من ماله عند شخص آخر ثم إنَّ الذي عنده الوديعة يتفق مع الحاكم بأن يدفع له قسماً من المال المودع عنده وحينئذٍ لو أقام صاحب الوديعة الدعوى المودع عنده المال فعلى الحاكم أن يدفع دعواه وشهوده ، فالآية الكريمة بصدد بيان هذا المطلب وبين الرشوة.
والفارق بين الموردين هو أنه في باب الرشوة يكون دفع المال من مال الراشي حتى يحكم الحاكم لصالحه بالباطل ، أما في هذا المورد الذي ذكرناه يكون الدفع من أموال الغير أي من نفس الوديعة لا من كيسه الخاص ، فإذن بينهما مغايرة ، والآية الكريمة إن لم تكن ناظرة إلى هذا فلا أقل هي مجملة ويكفينا الاجمال في عدم صلاحية الاستدلال بها ، فلاحظ الآية الكريمة حيث قال: ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ وهنا عبرّ بـ ( أموالكم ) والحال أنَّ المقصود أنه يشمل أموال الغير ؟ ذلك من باب أنَّ الاسلام ينظر إلى جميع المجتمع بنظرة شخصٍ واحد فحينئذٍ هذه أموالكم ، فبالتالي أنتم واحدٌ لا أننا ننظر إليكم متعددين ، ﴿ وتدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم ﴾ يعني أموال الغير ، فأنت تدفع شيئاً من هذه الأموال لتأكل فريقاً من أموال الناس ، فعلى هذا الأساس تكون الآية الكريمة صالحة للانطباق على ما قلناه.
ولعلّه تساعد على ذلك رواية أبي بصير ، ونصّها: ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله عزّ وجلّ في كتابه " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام" فقال: يا أبا بصير إنَّ الله عزّ وجلّ قد علم أنَّ في الأمة حكّاماً يجورون أما أنه لم يعنِ حكّام أهل العدل ولكنه عنى حكّام أهل الجور ، يا أبا محمد إنه لو كان لك على رجلٍ حق فدعوته إلى حكّام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا لك لكان ممّن حاكم إلى الطاغوت وهو قول الله عزّ وجلّ " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت )[10] ، إنَّ الرواية كما نلاحظ هي لم تعبّر بأنه يدفع الرشوة وإنما عبرت بأنه ( لو كان لك على رجلٍ حق ) والحق هو مثل هذه الوديعة ( فدعوته إلى حكّام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكّام الجور ليقضوا له لكان ممّن حاكم إلى الطاغوت ) ، فعلى أيّ حال الرواية إن لم تكن متلائمة مع الاحتمال الثاني وهو مسألة الوديعة مثلاً فلا أقل من احتمالها لذلك ، وبالتالي تعود الآية الكريمة غير صالحة للتمسّك بها خصوصاً بعد ضمّ هذه الرواية إليها.
إن قلت: إن الآية الكريمة ورد فيها ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ وهذا يكفينا لإثبات حرمة الرشوة ، أوليس أنها بالباطل ؟ فمادامت هي بالباطل فحينئذ نتمسّك بقوله تعالى ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ ولا نحتاج حينئذٍ إلى مسألة ﴿ وتدلوا بها إلى الحكّام ﴾ فإنَّ الرشوة هي نحوٌ من الباطل جزماً.
قلت: هذا من التمسّك بالعام أو الاطلاق في الشبهة المصداقية ، لأنه بَعدُ لم تثبت أنها من الباطل وحرام ، وإلا لو ثبتت فلا معنى لأن نأتي بالآية الكريمة ولا بالروايات ، فنحن من البداية فرضنا أنها بَعدُ لم تثبت حرمتها ، فنحن الآن نريد أن نثبت حرمتها وأنها باطل فلا يمكن حينئذٍ أن تتمسّك بما نُهِيَ فيه عن الأكل بالباطل ، فهذه المحاولة محاولة باطلة ، وإنما لابد من التمسّك بقوله تعالى بعد ذلك: ﴿ تدلوا بها إلى الحكّام ﴾.