33/10/22
تحمیل
(بحث يوم الاثنين 22 شوال 1433 هـ 161)
الموضوع :- المسألتان السابعة والثلاثون والثامنة والثلاثون / المناقشة في ما يتوقف عليه قول المشهور من دعوى دلالة أخبار الطائفة الثانية على الاختصاص ومن دعوى عدم الخصوصية للدين فيها/ طرح ما يمكن أن يُفهم منه أو يُتوهّم دلالته على الاختصاص وهما روايتان والمناقشة فيهما / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
كان الكلام في توجيه قول المشهور وقد ذكرنا له تقريبين يعتمدان على افتراض أن أخبار الطائفة الثانية فيها دلالة على الاختصاص وكان أوّلهما يبتني على إلغاء خصوصية الدين في روايات الطائفة الثانية فيُراد منه فيها الدين بما هو مال فيكون الحكم بجواز القضاء بشاهد ويمين الثابت للدين ثابتاً للمال بعد إلغاء الخصوصية ، وذكرنا أن دليل هذا التصرف جعل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج التي تدل على جواز القضاء بشاهد ويمين في غير الديون من الأموال قرينة على أن المراد من الدين في روايات هذه الطائفة
[1]
الدين بما هو مال ، وكان التقريب الثاني يبتني على التعدّي من مورد أخبار الطائفة الثانية - الذي هو الدين - إلى العين إما لعدم القائل بالفرق وإما للجزم عرفاً بعدم الفرق .
وهذا التوجيه بتقريبيه يتوقف على إثبات أمرين :
الأول : أن أخبار الطائفة الثانية - كلّاً أو بعضاً فيها دلالة على الاختصاص .
الثاني : أنه لا خصوصية للدين في تلك الأخبار وإنما المراد منه مطلق المال .
ولو تمّ هذان الأمران يكون هذا التوجيه بأيّ من تقريبيه - وجيهاً وصالحاً للدلالة على قول المشهور أو للالتزام به على الأقلّ بقطع النظر عن أن المشهور استند إليه أو لا .
أما الأمر الأول : - وهو قضية الاختصاص - فقد يقال هنا إن من الواضح أن بعض أخبار هذه الطائفة ليس فيه دلالة على الاختصاص وإنما غاية ما يُستفاد منه ثبوت القضاء في الدين بشاهد واحد ويمين فليس فيها مفهوم ينفي ثبوته بهما في غير الدين كما في صحيحة محمد بن مسلم
[2]
وصحيحة حماد بن عثمان
[3]
المذكورتين في بحث سابق .
نعم .. ما يمكن أن يُفهم منه أو يُتوهّم دلالته على الاختصاص من أخبار هذه الطائفة روايتان :
الأولى : صحيحة أبي بصير :
" قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له عند الرجل الحق وله شاهد واحد ، قال : فقال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحق وذلك في الدين "
[4]
.
والثانية : رواية القاسم بن سليمان :
" قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين
[5]
وحده "
[6]
.
والثانية غير تامة سنداً لعدم ثبوت وثاقة القاسم بن سليمان إلا على بعض المسالك غير التامة فهذه الرواية ساقطة عن الاعتبار ، وأما الرواية الأولى فهي وإن كانت تامة سنداً لكنها غير تامة دلالة لأن الذي يُتوهٌّم كونه دالاً على الاختصاص هو قول الإمام (عليه السلام) في ذيل الرواية : (وذلك في الدين) وهذا يُحتمل فيه أن يكون إشارة إلى ما وقع منه خارجاً (صلى الله عليه وآله) وأن قضاءه في الدين كان من باب الاتفاق بمعنى أن القضية التي رُفعت إليه كانت أساساً في الدين فقضى فيها بشاهد ويمين وليس فيها دلالة على الاختصاص بذلك وعلى هذا فلا يثبت الاختصاص لعدم إمكان استفادته من أخبار هذه الطائفة فإن بعضها لا دلالة فيه أصلاً وبعضها الآخر مما يُتخيّل فيه الدلالة عليه غير تام سنداً .
ويؤيد ذلك أن التعبير الوارد في صحيحة أبي بصير هو : (عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ) ولو كان السؤال عن الدين لقيل - مثلاً - : (عن الرجل يكون له على الرجل الحقّ) الذي هو التعبير المتعارف عن الدين فالتعبير الوارد في هذه الصحيحة ظاهر في ما يكون قابلاً لأن يكون عند أحد وأوضح مصاديقه المال في ما إذا كان عيناً خارجية ومقتضى مطابقة الجواب للسؤال أن لا يكون ما ورد في ذيل الرواية من قوله (عليه السلام) : (وذلك في الدين) دالاً على الاختصاص بالدين وإلا لم يكن هناك تطابق بين السؤال والجواب بخلاف ما إذا قيل إنه إشارة إلى الواقع الخارجي من فعل الرسول (صلى الله عليه وآله) وأن الحكم الصادر منه لا يختص بالدين فإن هذا يناسب السؤال لأنه كان عن مطلق المال وليس عن الدين بخصوصه .
هكذا قد يقال .. ولكن يلاحظ عليه :
أولاً : بالمنع من دعوى وضوح كون أخبار الطائفة الثانية - غير صحيحة أبي بصير ورواية القاسم بن سليمان - ليس فيها دلالة على الاختصاص بل من المحتمل قوياً أن يكون لها دلالة على ذلك فإنها قد وردت بعنوان : " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقضي بشاهد ويمين في الدين " أو : " كان علي (عليه السلام) يجيز شهادة الواحد مع يمين المدعي في الدين " ومثل هذا لا يخلو من دلالة على الاختصاص ، نعم .. لو كان التعبير قد ورد بمثل : (قضى رسول الله بشهادة واحد مع يمين المدّعي في الدين) فربما يقال بعدم دلالته على الاختصاص ولكن التعبير الوارد هو بـ (كان) مع الفعل المضارع الدال على استمرار الفعل وتكرّره ومثل هذا التعبير لا يخلو من دلالة على اختصاص الحكم بموضوعه وهو الدين في تلك الروايات .
وثانياً : إنه لا مانع من أن يكون السؤال عاماً والجواب خاصّاً فالسؤال في صحيحة أبي بصير وإن كان عن مطلق الأموال
[7]
إلا أن هذا لا ينافي الاختصاص فيمكن أن يكون مقصود الإمام (عليه السلام) هو التفريق في الأموال - الذي هو عنوان عام يشمل الدين والعين بأن كان يريد (عليه السلام) أن يقول للسائل بأن هذه الأموال التي تسأل عنها إن كانت من الدين فيجوز القضاء فيها بشاهد ويمين وإن كانت من العين فلا يجوز القضاء فيها بشاهد ويمين فعبّر (عليه السلام) عن ذلك بقوله : (وذلك في الدين) ولا محذور في هذا .
بل يمكن أن يقال إنه حتى لو فُرض كون السؤال عن غير الدين من الأموال - كما لا يبعد ذلك لمناسبة التعبير الوارد في الرواية له إلا أنه لا محذور في افتراض كون الجواب خاصّاً بالدين فالسائل وإن كان قد سأل عن غير الدين والإمام (عليه السلام) أجابه بأن شهادة واحد ويمين أمر مختص بالدين ولا يشمل محلّ السؤال إلا أنه (عليه السلام) كأنه أجابه ضمناً بأن مورد السؤال - الذي هو غير الدين من الأموال - لا يثبت بشاهد واحد ويمين .
فإذاً مهما فُرِض في السؤال فهو لا ينافي افتراض الاختصاص في جواب الإمام (عليه السلام) .
وثالثاً : إن هناك رواية معتبرة سنداً وظاهرة دلالة في الاختصاص بالدين من دون أن يرد فيها الاحتمال السابق الذي ذُكر في صحيحة أبي بصير من تعلّق الرواية بواقعة خارجية - وهي رواية داود بن الحصين :
" قال : سألته عن شهادة النساء في النكاح بلا رجل معهنّ إذا كانت المرأة منكرة فقال : لا بأس به ، ثم قال لي : ما يقول في ذلك فقهاؤكم ؟ قلت : يقولون لا يجوز إلا شهادة رجلين عدلين ، فقال : كذبوا لعنهم الله هوّنوا واستخفّوا بعزائم الله وفرائضه ، وشدّدوا وعظّموا ما هوّن الله ، إن الله أمر في الطلاق بشهادة رجلين عدلين فأجازوا الطلاق بلا شاهد واحد والنكاح لم يجئ عن الله في تحريمه
[8]
، فسنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك الشاهدين تأديباً ونظراً لئلاّ يُنكر الولد والميراث وقد ثبت عقد النكاح ويستحلّ الفرج ولا أن يشهد
[9]
، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجيز شهادة امرأتين في النكاح عند الانكار ولا يجيز في الطلاق إلا شاهدين عدلين ، قلت : فأنّى ذَكَر الله تعالى وقوله : (رجل وامرأتان) ؟ فقال : ذلك في الدين إذا لم يكن رجلان فرجل وامرأتان ورجل واحد ويمين المدّعي إذا لم تكن امرأتان ، قضى بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) بعده عندكم "
[10]
.
وهذه الرواية ينبغي أنت يُعبّر عنها بالموثّقة لأن داود بن الحصين واقفي ثقة والرواية تامة سنداً وإن كان فيها محمد بن حديد الذي فيه كلام إلا أنه يشترك مع محمد بن خالد في الرواية عن علي بن نعمان فالمعتبر هو طريق محمد بن خالد الذي هو البرقي الثقة عن علي بن نعمان الثقة فلا يضرّ حال محمد بن حديد حينئذ .
وهذه الرواية واضحة الدلالة في اختصاص قبول شهادة الشاهد الواحد واليمين في الدين كما هو ظاهر ولا يأتي فيها الاحتمال الذي ذُكر في صحيحة أبي بصير من أنه إشارة إلى قضية خارجية كما تقدّم ذكره - لأن الإمام (عليه السلام) كان في مقام تفسير قوله تعالى : (فرجل وامرأتان) فقال : (ذلك في الدين) وهذه إشارة إلى حكم شرعي واختصاص هذا الحكم بالدين حيث قال (عليه السلام) : (ورجل واحد ويمين المدّعي إذا لم تكن امرأتان) .
ومن هنا يظهر أن هناك ما يمكن عدّه من أخبار الطائفة الثانية مما يدلّ على الاختصاص وهو الأمر الأول الذي يتوقف عليه توجيه قول المشهور - من أن شهادة واحد ويمين تثبت في مطلق الأموال - .
أما الأمر الثاني : وهو إلغاء خصوصية الدين في هذه الأخبار وافتراض أن المراد به فيها الدين بما هو مال لا بما هو دين ذو خصوصية يتميّز بها عن العين فقد تقدّم أن له تقريبين أحدهما دعوى عدم القائل بالفرق بين الدين والعين والآخر دعوى عدم الفرق بينهما عرفاً ، وفي كلا الدعويين مجال للنظر :
أما الدعوى الأولى : فممنوعة من جهة أن أصحاب القول الأول كالشيخ الطوسي (قده) وأتباعه يقولون باختصاص هذا الحكم بخصوص الدين دون العين بل صرّح الشيخ بذلك فكيف يُدّعى عدم وجود قائل بالفرق بين الدين وغير الدين من الأموال .
وأما الدعوى الثانية : فليست بذلك الوضوح فإن الاعتماد على عدم تفرقة العرف بين أمرين إن لم تصل إلى حدّ الجزم - ولو كان جزماً عرفياً - فلا عبرة بها والمدّعى في المقام وجود احتمال أن للدين خصوصية أوجبت من الشارع المقدّس جواز إثباته بشهادة واحد ويمين وذلك من جهة أن إثباته يكون عادة أصعب من إثبات العين فلذا اقتضى من الشارع المقدّس أن يجعل نوعاً من التنازل والتخلّي عن اشتراط العدلين فاكتُفي فيه بعدل واحد ويمين المدّعي بخلاف العين فإن إثباتها لمّا كان سهلاً لم يكن ثمة مانع من أن يُشترط فيه شهادة رجلين عدلين ، وهذا وإن كان بمستوى الاحتمال إلا أنه لا دافع له ومثله كاف في المنع من التعدي عن مورد الرواية إلى غيرها .
نعم يمكن تقريب هذا الأمر
[11]
وذلك بالاستعانة بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج بأن يقال إن دلالتها تامة على جواز القضاء بشاهد واحد ويمين في موردها وهو درع طلحة الذي هو ليس ديناً والرواية ظاهرة ظهوراً واضحاً في جواز القضاء بشاهد واحد ويمين فيها
[12]
وهذا يُشكّل قرينة على أن المراد بالدين في أخبار الطائفة الثانية الدين بما هو مال إذ لو قيل بالجمود على مورد النصّ هاهنا وهو العين وتُحفّظ في المقابل على خصوصية الدين في تلك الأخبار لحصل التعارض في البين بضميمة ما ثبت من دلالة أخبار الطائفة الثانية على الاختصاص الذي ينعقد له مفهوم بعدم ثبوت الحكم في غير موردها فدفعاً لإشكال التعارض بين الدلالتين تُحمل الصحيحة على كونها قرينة على أن المراد بالدين في تلك الروايات الدين بما هو مال فلا تنافي حينئذ ويثبت بذلك قول المشهور .
وللكلام تتمة ستأتي إن شاء الله تعالى .
[1] حيث تدل على جواز القضاء بالشاهد واليمين في الديون .
[2] " قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجيز في الدين شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدين ولم يكن يجيز في الهلال إلا شاهدي عدل " الكافي مج7 ص386 ، الوسائل الباب الرابع عشر من أبواب كيفية الحكم الحديث الأول مج27 ص264 .
[3] " قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : كان علي (عليه السلام) يجيز في الدين شهادة رجل ويمين المدعي " الكافي مج7 ص385 ، الوسائل الباب الرابع عشر من أبواب كيفية الحكم الحديث الثالث مج27 ص265 ، وهذه الرواية معتبرة بطريق الوشّاء ، وأما بطريق صفوان فليست كذلك لوجود مشكلة سندية فيها .
[4] الكافي مج7 ص385 ، الوسائل الباب الرابع عشر من أبواب كيفية الحكم الحديث الخامس مج27 ص265 .
[5] أي المدّعي .
[6] التهذيب مج6 ص237 ، الوسائل الباب الرابع عشر من أبواب كيفية الحكم الحديث العاشر مج27 ص268 .
[7] وذلك لأنه لم يقل : (عن الرجل يكون له على الرجل الدين) وإنما قال : (عن الرجل يكون له على الرجل الحقّ) وهذا ظاهر في مطلق الاموال .
[8] يعني أن النكاح لم يجئ عن الله سبحانه وتعالى احترامه بإلزام الطرفين بشهادة عادلين أي لم يجئ عنه تعالى الإلزام بالإشهاد عليه بشاهدين عدلين (منه دامت بركاته) .
[9] جملة حالية بمعنى : مع عدم الإشهاد .
[10] التهذيب مج6 ص282 ، الوسائل الباب الرابع والعشرون من أبواب الشهادات الحديث الخامس والثلاثون مج27 ص361 .
[11] أي إلغاء خصوصية الدين في هذه الأخبار وافتراض أن المراد به فيها الدين بما هو مال .
[12] أي في درع طلحة التي هي عين من الأعيان وليست ديناً .