33/10/21
تحمیل
(بحث يوم الأحد 21 شوال 1433 هـ 160)
الموضوع :- المسألتان السابعة والثلاثون والثامنة والثلاثون / محاولة إثبات القول الثاني وهو قول المشهور من التعميم للأموال مطلقاً ونفي ثبوت الحكم لمطلق حقوق الناس / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
كان الكلام في الأقوال في المسألة وقلنا إنها ثلاثة :
القول الأول : الاختصاص بالديون فلا يشمل الأعيان وإن كانت معدودة من الأموال وهو المحكي عن الشيخ الطوسي (قده) .
القول الثاني : التعميم للأموال فيشمل ما كان ديناً أو عيناً وما كان مالاً بنحو مباشر أو كان مقصوداً به المالية ، وهذا القول هو اختيار المشهور .
القول الثالث : التعميم لمطلق حقوق الناس فيشمل ما كان مالاً ديناً أو عيناً وما كان حقّاً محضاً كحقّ القصاص ، وهذا القول اختيار جمع قليل منهم من المتأخرين السيد الماتن (قده) .
وقد تقدّم استعراض الروايات الواردة في هذه المسألة وقد قسّمناها إلى طوائف ثلاث :
الطائفة الأولى : ما دل على جواز القضاء بالشاهد واليمين في الجملة وبنحو القضية المهملة ، ورواياتها ثلاث .
الطائفة الثانية : ما دل على جواز القضاء بهما في الديون ، ورواياتها خمس .
الطائفة الثالثة : ما يظهر منه التعميم لمطلق حقوق الناس وإن لم تكن من الديون أو الأموال في قبال حقوق الله سبحانه وتعالى فتشمل مثل حقّ القصاص وحقّ الطلاق ، وهي رواية واحدة .
ومن هنا يتبين أنه لا يوجد في ضمن هذه الطوائف ما يدل على القول الذي ذهب إليه المشهور من التعميم لمطلق الأموال في مقابل الاختصاص بالديون (الذي هو القول الأول) والتخصيص بالأموال في مقابل التعميم لمطلق حقوق الناس (الذي هو القول الثالث) فإن الطائفة الأولى تدل على جواز القضاء بنحو القضية المهملة من دونما إشارة إلى الموارد من الدين أو العين مطلقاً ، والطائفة الثانية موردها الدين ولم تتعرّض إلى التعميم للأموال وعدم التعميم لحقوق الناس - على كلام سيأتي في أن لها دلالة على الاختصاص بالديون أو لا ، والطائفة الثالثة دالة على التعميم لحقوق الناس في حين أن المشهور يرى الاختصاص بالحقوق المالية فقط لا مطلق حقوق الناس .
ومن هنا قد يقال بأن إثبات قول المشهور بالأدلة والروايات في غاية الإشكال كما قيل بذلك وأشار إليه جملة من فقهائنا (رض) منهم صاحب المستند وصاحب الجواهر والسيد الماتن (قدهم) وقالوا بأن مقتضى الروايات هو إما الالتزام برأي الشيخ الطوسي (قده) من الاختصاص بالديون - وهو القول الأول - ، أو الالتزام بالتعميم إلى مطلق حقوق الناس وهو القول الثالث - ، وأما الالتزام بالتعميم إلى الأموال في قبال الديون والتخصيص بالأموال في قبال حقوق الناس فهو مما لا يوجد عليه شاهد من هذه الأخبار حتى أن الشهيد الثاني في المسالك لمّا لم ير رواية من طرقنا تدل على قول المشهور ذكر رواية عامية دليلاً على قول المشهور وهي ما رواه ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال : " قال : استشرت جبرئيل (عليه السلام) في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار عليَّ بذلك في الأموال [وقال:] لا تعدو ذلك "
[1]
.
هذا .. ولكن بالرغم من ذلك فقد استُدلّ للقول المشهور بصحيحة لعبد الرحمن بن الحجاج وهي رواية طويلة - قالوا إن فيها دلالة على ذلك :
" قال : دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السلام) فسألاه عن شاهد ويمين ، فقال : قضى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقضى به علي (عليه السلام) عندكم بالكوفة ، فقالا : هذا خلاف القرآن ، فقال : وأين وجدتموه خلاف القرآن ؟ قالا : إن الله يقول : (وأشهدوا ذوي عدل منكم) ، فقال : قول الله : (وأشهدوا ذوي عدل منكم) هو لا تقبلوا شهادة واحد ويميناً ، ثم قال : إن علياً (عليه السلام) كان قاعداً في مسجد الكوفة فمرّ به عبد الله بن قفل التميمي ومعه درع طلحة ، فقال له علي (عليه السلام) : هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة ، فقال له عبد الله بن قفل : اجعل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين فجعل بينه وبينه شريحاً ، فقال علي (عليه السلام) : هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة ، فقال له شريح : هاتِ على ما تقول بيّنة ، فأتاه بالحسن [عليه السلام] فشهد أنها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة ، فقال شريح : هذا شاهد واحد ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر فدعا قنبر فشهد أنها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة ، فقال شريح : هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك ، قال : فغضب علي (عليه السلام) وقال : خُذها فإن هذا قضى بجور ثلاث مرات ، قال : فتحوّل شريح وقال : لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيتُ بجور ثلاث مرات ؟ فقال له : ويلك - أو ويحك - إني لما أخبرتك أنها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة فقلت : هاتِ على ما تقول بينة ، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : حيث ما وُجد غلول أُخِذ بغير بينة
[2]
، فقلتُ : رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة
[3]
، ثم أتيتك بالحسن [عليه السلام] فشهد فقلت : هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشهادة واحد ويمين
[4]
، فهذه ثنتان ، ثم أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة ، فقلت : هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك ، وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً ، ثم قال : ويلك - أو ويحك - إن إمام المسلمين يُؤمَن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا "
[5]
.
وتقريب الاستدلال بهذه الصحيحة على قول المشهور من جهة وضوح دلالتها في جواز القضاء بشاهد ويمين في غير الدين من الأموال لأن موردها درع طلحة وهو عين وليس ديناً حيث إن الإمام (عليه السلام) أنكر على شريح توقّفه في القضاء اعتماداً على الشاهد الواحد ولو انضم إليه يمين قائلاً : (لا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر) فاستشهد الإمام (عليه السلام) في محلّ النزاع بفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من اعتماده على شاهد واحد ويمين ، ومن الواضح أن محل النزاع وهو درع طلحة - ليس من الديون وإنما هو من الأعيان فالرواية تكون دالة على جواز القضاء بشاهد ويمين في غير الديون من الأموال وهذا ما يرومه المشهور .
ولكن أورد على هذا الاستدلال بأن اعتراض الإمام (عليه السلام) على شريح ليس من جهة عدم قضائه بشاهد ويمين في خصوص مورد النزاع حتى تدل على قول المشهور
[6]
وإنما هو من جهة أن شريحاً أطلق قوله : " لا أقضي بشاهد واحد حتى يكون معه آخر " فأجابه الإمام (عليه السلام) معترضاً على إطلاقه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قضى بشهادة واحد ويمين فالرواية إذاً ليس فيها دلالة على قول المشهور فإنه من الممكن فرض أن الإمام (عليه السلام) كان يوافق شريحاً في أنه لا يُقضى بشاهد ويمين في مثل مورد النزاع
[7]
لأنه ليس من الديون .
هذا ما أُورد .. لكن الإنصاف أن هذه الرواية لا تخلو من دلالة على قول المشهور لاسيما قوله (عليه السلام) : " وقد أتيتك بالحسن فشهد فقلت هذا واحد ولا أقضي بشاهد واحد حتى يكون معه آخر وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشهادة واحد ويمين " إذ الظاهر أن غرض الإمام (عليه السلام) تطبيق ما ذكره من كفاية شهادة الواحد واليمين على مورد النزاع بحيث إن عدم اكتفاء شريح بهما فيه
[8]
عدّه الإمام (عليه السلام) من القضاء بالجور وهذا معناه أن الشاهد واليمين يُقضى بهما في غير الديون من الأموال وهو ما ذهب إليه المشهور .
نعم .. يمكن أن يُلاحظ على الاستدلال المذكور من جهة أخرى وهي أنه قد تقدّم أن قول المشهور يتضمن أمرين لولاهما لا يكون قولاً ثالثاً في مقابل القولين الآخرين ولا بد في مقام الاستدلال من إثباتهما معاً :
أحدهما : التعميم للأموال وعدم الاختصاص بالديون .
الآخر : التخصيص بالأموال في مقابل التعميم لمطلق حقوق الناس .
والرواية المذكورة إنما تصلح لإثبات الأمر الأول لكونها تنفي اختصاص الحكم بالديون وتعمّمه لغير الديون من الأموال لأن موردها وهو درع طلحة من الأعيان ولكنها لا تصلح لإثبات الأمر الثاني وهو التخصيص بالأموال بمعنى نفي تعميم الحكم لمطلق حقوق الناس ذلك أن غاية ما يُستفاد منها جواز القضاء بالشاهد واليمين في درع طلحة الذي هو من الأموال غير الديون ولا دلالة فيها على عدم جواز القضاء بهما في مطلق حقوق الناس من غير الأموال .
وبعبارة أخرى : إن قول المشهور في قبال القولين الآخرين يحتاج إلى دليل يدل على جواز القضاء بالشاهد واليمين في الأموال ويدل على الاختصاص بذلك ، ومن الواضح أن الصحيحة وإن دلّت على جواز القضاء بهما في غير الديون من الأموال إلا أنها لا تدل على الاختصاص المذكور .
هذا .. ولكن يمكن أن يُوجّه الاستدلال بالصحيحة وإثبات دلالتها على كلا الأمرين اللذين يتضمّنهما قول المشهور وذلك بأحد تقريبين :
الأول : إلغاء خصوصية الدين في روايات الطائفة الثانية فيُراد حينئذ الدين بما هو مال فيكون الحكم بالجواز الثابت للدين ثابت للمال بعد إلغاء الخصوصية ، ودليل هذا التصرف صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدّمة لأنها تدل على جواز القضاء بهما في غير الديون من الأموال في حين أن روايات الطائفة الثانية تدل على جواز القضاء بهما في الديون فتُجعل الصحيحة قرينة على أن الدين في روايات هذه الطائفة لا يراد به الدين بما هو دين في قبال سائر الأموال وإنما يراد به الدين بما هو مال فكأن الموضوع في روايات هذه الطائفة هو عبارة عن المال ولا خصوصية للدين المذكور فيها وعلى ذلك فيكون في روايات الطائفة الثانية ما يدل على الاختصاص بالمال لأن المفهوم من لسان بعضها حصر القضاء بالشاهد واليمين في الدين كقوله (عليه السلام) في معتبرة أبي بصير : (وذلك في الدين) فإذا حملنا الدين على أن المراد به المال انتقل الحصر إليه فيثبت الأمر الثاني من الأمرين اللذين تضمّنهما قول المشهور وقد ثبت الأمر الأول من قبل فيثبت على ذلك قول المشهور بعد الاستعانة بصحيحة عبد الرحمن بالبيان المزبور .
التقريب الثاني : أن يُحتفظ بخصوصية الدين في روايات الطائفة الثانية ولكن يقال بالتعدّي منه إلى العين إما لعدم القائل بالفرق بينهما كما ذكره المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ، وإما للجزم بعدم الفرق بينهما عرفاً فإذا ثبت هذا التعدّي يكون مورد تلك الروايات حينئذ هو المال مطلقاً فإذا فُرض أن في تلك الروايات ما يدل على الاختصاص والحصر تكون دالة حينئذ على اختصاص الحكم بجواز القضاء بشاهد ويمين في الأموال دون غيرها من حقوق الناس فيثبت وفق هذا التقريب الأمر الثاني من الأمرين المتقدّمين وقد ثبت الأمر الأول من قبل فيثبت بذلك قول المشهور .
والحاصل أنه يُدّعى في المقام أنه يمكن إثبات قول المشهور إما بالاستعانة بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وجعلها قرينة على إلغاء خصوصية الدين في روايات الطائفة الثانية ليكون المقصود بالدين فيها الدين بما هو مال مع فرض دلالة بعض أخبار هذه الطائفة على الاختصاص ، وإما عن طريق التعدّي باعتبار الجزم بعدم الفرق عرفاً أو باعتبار عدم القول بالفرق بين الدين وغيره من الأموال مع فرض دلالة بعض أخبار هذه الطائفة على الاختصاص أيضاً فيثبت بذلك قول المشهور .
ولكن هل هذا الكلام تام أم لا ؟
هذا ما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى .
[1] المسالك مج13 ص510 .
[2] يعني جاز لمن وجد الغلول أن يأخذه بغير بينة ، وهنا قد يرد إشكال وهو أن الموضوع غير منقّح يعني ليس من المعلوم كونه غلولاً أو لا ، وأجيب أن المقصود بذلك أن الواجد الذي علم بكونه غلولاً يجوز له أخذها بلا بيّنة (منه دامت بركاته).
[3] يعني من الموارد الثلاث التي قضى بها شريح بالجور .
[4] هذا هو محلّ الشاهد لأن معنى قول شريح : (لا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر) أنه لا يقضي بشهادة واحد حتى لو انضمّ إليه يمين المدّعي .
[5] الكافي مج7 ص386 ، الفقيه مج3 ص109 ، الوسائل الباب الرابع عشر من أبواب كيفية الحكم الحديث الخامس مج27 ص265 .
[6] وهو جواز القضاء بهما في غير الديون من الأموال .
[7] وهو درع طلحة .
[8] أي بالشاهد ويمين في مورد النزاع .