38/01/28
تحمیل
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/01/28
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
كان الكلام في حكم الفقهاء بصحّة الوضوء مع الجهل بالضرر، والإشكال في حكمهم بالصحة كما ذكرنا ينشأ من أنّ مقتضى القواعد الأولية هو الحكم بالبطلان، باعتبار تحقق الضرر الواقعي؛ لأنّ المفروض أنّ هذا يجهله الضرر مع فرض وجوده واقعاً . إذن: هذا الوضوء ضرري، وإذا كان هذا الوضوء ضررياً، فمقتضى القاعدة هو أنّ قاعدة لا ضرر تشمل هذا الوضوء الضرري، فتنفي وجوبه، وبالتالي لا يمكن إثبات صحّة ذلك الوضوء، فكيف حكموا بصحّة الوضوء ؟!
وبعبارة أخرى: إنّ القاعدة إذا كان جريانها في الوضوء يستوجب البطلان حينما يكون ضررياً، فهو يستوجب البطلان سواء علم المكلف بالضرر، أو لم يعلم بالضرر، علم المكلّف وجهله بالضرر لا يؤثّر؛ لأنّ مفاد القاعدة هو نفي الحكم الضرري، وموضوع هذا النفي هو الضرر الواقعي، فمع وجود الضرر الواقعي تجري القاعدة وتنفي الوجوب، وبالتالي تنفي ما يترتب على الوجوب من الصحّة، فيثبت البطلان، فكما أنّ مقتضى القاعدة إذا كان عالماً بالضرر هو بطلان الوضوء، فكذلك مقتضى القاعدة أيضاً هو بطلان الوضوء إذا كان جاهلاً بالضرر، فلماذا حكموا بالصحّة ؟! هذا هو الإشكال، لماذا فرّقوا بين صورة العلم بالضرر، والجهل بالضرر، مع أنّ مقتضى قاعدة لا ضرر إذا كانت تقتضي البطلان، فهي تقتضي البطلان فيهما معاً ؟!
ذكرنا في الدرس السابق أنّ السيد الخوئي نفسه(قدّس سرّه) ذكر أنّ الحكم بالصحة يتوقف على اختيار أحد أمرين ، هذا يكفي للحكم بصحة الوضوء : [1]
الأمر الأوّل: الالتزام بعدم حرمة الإضرار بالنفس، وهذا الإضرار الذي يترتب على الوضوء هو إضرار غير واصل إلى حدّ الهلكة حتى يكون حراماً، فلا يكون حراماً . إذن: ما يكون الوضوء سبباً في حصوله من الضرر، لا يكون حراماً، الإضرار بالنفس بهذا المستوى من الضرر لا يكون حراماً، ومعه يقع الوضوء صحيحاً؛ إذ لا موجب لبطلان الوضوء؛ بل الوضوء صحيح، صدر من المكلّف وليس فيه نهي ولا مبغوضية، وما يسببّه ليس حراماً حتى يقال أنّ هذه الحرمة توجب مبغوضيته . فإذن: هو وضوءٌ غير مبغوضٍ وغير منهي عنه، وليس حراماً ولا سبباً في حصول الحرام؛ فلماذا لا يقع صحيحاً ؟ حتى من جهة قصد القربة أيضاً يقع صحيحاً؛ لأننا نتكلّم عن الجاهل بالضرر، وهو عندما يتوضأ يتأتّى منه قصد القربة، فيقع صحيحاً .
الأمر الثاني: أن لا نقول بالسراية، حتى وإن تنزلنا عن الأمر الأول، وقلنا أنّ الإضرار بالنفس وإن لم يصل إلى حدّ التهلكة يكون حراماً، فيكون الوضوء سبباً لحصول الإضرار بالنفس المحرّم، لكن بالرغم من هذا إذا قلنا بعدم السراية أيضاً نقول بالصحة، وعدم السراية يعني أنّ النهي المتعلّق بالمسبب التوليدي الذي هو الإضرار بالنفس ـــــــ الذي تنزلنا وسلّمنا أنه حرام ــــــ هذا النهي المتعلّق بالإضرار بالنفس لا يسري إلى سببه التوليدي الذي هو الوضوء، فلا يكون الوضوء حراماً ولا مبغوضاً؛ لعدم السراية، وقد بيّنا سابقاً الوجه في عدم السراية وقلنا؛ لأنّه وإن كان بينهما علاقة السببية والمسببية التوليدية، لكن هما وجودان متغايران ومتعلّق النهي هو إيجاد المسبَب، وإيجاد المُسبَب غير إيجاد السبب . وعليه: فالوضوء لا يكون مبغوضاً ولا منهياً عنه، فيقع صحيحاً إذا صدر من المكلّف، يعني لا وجه للالتزام بالبطلان، لأنّه وضوء صدر واجداً لكل الشرائط المعتبرّة فيه بما فيها قصد التقرّب . إذن: لماذا يقع باطلاً ؟! يحكم بصحته بمقتضى إطلاق الأدلة الدالة على صحّة الوضوء الجامع للشرائط .
هذا الأمر الثاني هو أمرٌ مستقلٌ، يعني حتى إذا أنكرنا الأمر الأول وقلنا بحرمة الإضرار بالنفس، مع ذلك هذه الحرمة لا تسري إلى الوضوء، فيقع الوضوء صحيحاً؛ لأنّه لا موجب للحكم ببطلانه . وهذان الأمران اللذان ذكرهما كلٌ منهما تامٌ :
الأمر الأول تام، وهو أنّ الإضرار بالنفس ليس حراماً مطلقاً، وإنّما يكون حراماً حيث يصل إلى حدّ إلقاء النفس في التهلكة، وأمثاله، لكن لا دليل على حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً . قد يُستدَل؛ بل استُدل على حرمة الإضرار بالنفس، وإن لم تصل إلى حدِّ إلقاء النفس في التهلكة....استُدل بأمور ليست تامّة :
الأمر الأول: الاستدلال بنفس القاعدة(قاعدة لا ضرر) بتقريب: أنّ جواز الإضرار بالنفس هو حكم ضرري حاله حال سائر الأحكام الضررية، فيكون منفياً بالقاعدة، ومن الواضح أنه إذا انتفى جواز الإضرار بالنفس، فأنه يكون حراماً، وبهذا يكون الإضرار بالنفس حراماً؛ لأنّ قاعدة لا ضرر رفعت جوازه؛ لأنّ جواز الإضرار بالنفس حكم ضرري ينشأ منه الضرر، فحاله حال جواز الوضوء الضرري، ووجوب الغُسل الضرري، ووجوب القيام في الصلاة إذا كان ضررياً وغيره من الأحكام الضررية . هذا جواز الإضرار بالنفس حكم ضرري يترتب عليه الضرر، فينتفي هذا الجواز، ويثبت التحريم، وبهذا نصل إلى حرمة الإضرار بالنفس، وإن لم يصل إلى حدِّ إلقاء النفس في التهلكة.
يُلاحظ على هذا الدليل: أنّ هذا الكلام متين جداً بالنسبة إلى الحكم الشرعي القائل بجواز الإضرار بالغير، فإنّ جواز الإضرار بالغير هو الذي يكون منفياً بالقاعدة؛ لأنّه حكم يترتب عليه الضرر؛ إذا جوّزنا للإنسان أن يضرّ بغيره وليس بنفسه، فهذا حكم ضرري يترتب عليه الضرر ويستند الضرر في حال وقوعه إلى نفس هذا الحكم الشرعي؛ فحينئذٍ يكون حاله حال الأحكام الشرعية الضررية التي يستند إليها، وتكون هي السبب في حصول الضرر، هذا يكون مشمولاً للقاعدة، والقاعدة تنفيه؛ وحينئذٍ يمكن الالتزام بحرمة الإضرار بالغير؛ لأنّ جوازه ارتفع بهذه القاعدة، باعتباره من الأحكام الضررية، لكن كلامنا ليس في هذا، وإنّما في جواز الإضرار بالنفس، وهو ليس من الأحكام الضررية، بمعنى أنّه لو فُرض حصول الإضرار بالنفس، فهو لا يستند إلى هذا الحكم الشرعي، أي لا يستند إلى جواز الإضرار بالنفس، وإنّما يستند إلى إرادة المكلّف، واختياره أن يوقع الضرر بنفسه، فلا يكون الضرر مستنداً إلى الحكم الشرعي، والمفروض أنّ القاعدة إنّما تنفي الأحكام الشرعية التي تكون هي السبب في حصول الضرر . جواز الإضرار بالنفس ليس هو السبب في إضرار الإنسان بنفسه، وإنّما السبب هو أنّ المكلّف يريد أن يضر بنفسه، سواء كان هناك جواز، أو لم يكن، لا أنّ الجواز الشرعي للإضرار بالنفس هو الذي يكون سبباً في حصول الضرر؛ ولذا لا تشمله القاعدة ولا يمكن نفي هذا الجواز ، وبالتالي إثبات التحريم بالنسبة إلى الإضرار بالنفس؛ لما قلناه مراراً من أنّ القاعدة إنّما تنفي الحكم حيث يكون سبباً في حصول الضرر بحيث يستند الضرر إليه، هنا لا يستند الضرر إلى جواز الإضرار بالنفس، لو فُرض ارتكاب المكلّف له، وإنّما يستند إلى إرادته واختياره . بينما الإضرار بالغير، الشارع عندما يجوّز للمكلّف الإضرار بالغير، فلو أضرّ بالغير، فأنه يكون مستنداً إلى جواز الإضرار بالغير، فتشمله القاعدة وتكون نافية له . هذا هو الفرق بينهما . ومن هنا لا يصح الاستدلال بالحديث لإثبات حرمة الإضرار بالنفس، هذا ليس دليلاً على إثبات هذه الحرمة .
استُدل أيضاً ببعض الروايات على حرمة الإضرار بالنفس، ولعلّ أهمها ما ورد في بعض كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه) من الاستدلال برواية طلحة بن زيد، عن الإمام الصادق(عليه السلام) ورد في هذه الرواية هذا التعبير: (الجار كالنفس، غير مضّار ولا آثم).[2] الظاهر أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) إنّما ذكرها في مقام الاستدلال بها على حرمة الإضرار بالنفس، وإن لم يبلغ حدِّ الإلقاء في التهلكة بتقريب: كأنه يفهم منها أنّ الحديث مسوق لبيان حرمة الإضرار بالجار، وكأنّه يريد أن يقول أنّ الجار كالنفس، فكما يحرم الإضرار بالنفس، كذلك يحرم الإضرار بالجار . إذا فسّرنا الرواية بهذا التفسير؛ فحينئذٍ الرواية تكون ظاهرة في المفروغية عن حرمة الإضرار بالنفس، فتكون دالة على حرمة الإضرار بالنفس؛ لأنّها أمر مفروغ عنه .
هذا الكلام أيضاً يمكن التأمّل فيه بقطع النظر عن صحّة الرواية سنداً، أو عدم صحّتها؛ لأنّ فيها كلام؛ وليس من الواضح تمام سندها من جهة (طلحة بن زيد) حيث لم يتضح ثبوت وثاقته .
الأمر الآخر هو أنّ هناك احتمالاً آخر في الرواية يمنع من الاستدلال بها في المقام، وهو احتمال أن يكون المقصود غير هذا المعنى، يعني ليس المقصود إثبات حرمة الإضرار بالجار تشريعاً، باعتبار ثبوت الحرمة التشريعية للإضرار بالنفس، وكون حرمة الإضرار بالنفس تشريعاً أمراً مسلّم ومفروغاً عنه، نفس الحرمة الشرعية للإضرار بالنفس يقول بمقتضى أنّ الجار كالنفس سوف تثبت للجار أيضاً، ليس هذا هو المقصود، وإنّما هناك احتمال آخر في الرواية، وهو أنّ الإنسان المكلّف بطبيعة الحال وبمقتضى التكوين هو لا يوقع الضرر بنفسه، إلاّ إذا كان مجنوناً، فيُحتمل أنّ الرواية تريد أن تقول أنّ الجار كالنفس، أيّها الإنسان كما أنك من غير المعقول تكويناً أن توقع الضرر بنفسك بدنياً أو مادياً، فجارك مثل نفسك ينبغي عدم الإضرار به، فهذا قد يُفهم منه الحرمة التشريعية بالنسبة للإضرار بالجار، والشارع عندما يقول هذا الكلام، فقد يُفهم منه أنّه يُحرّم الإضرار بالجار، لكن ليس معنى ذلك هو أخذ حرمة الإضرار بالنفس الشرعية أمراً مفروغاً عنه، الأمر المفروغ عنه هو أنّ الإنسان لا يضر به تكويناً إلاّ إذا كان مجنوناً، هي تقول: هذا ينبغي إسرائه إلى الجار، الحار أيضاً لا ينبغي الإضرار به .
ومن هنا، بروز هذا الاحتمال في الرواية ، بالإضافة إلى عدم وضوح تمامية سندها أيضاً يمنع من الاستدلال بها، وبالتالي معظم المتأخرين بنوا على أنه لا يحرّم الإضرار بالنفس على إطلاقه؛ بل في بعض الموارد لا يمكن الالتزام بحرمة الإضرار بالنفس، فلو فرضنا أنّ شخصاً ــــــ مثلاً ــــــ كانت هناك أكلة يحبها، ولكنّها تضره، فهل يقال له: يحرم عليك أكلها ؟ أو إذا كان الشخص يخرج من الحمّام ــــــ مثلاً ــــــ ويقف أمام المروحة الكهربائية، ويتضرر إذا وقف أمامها، فهل يقال له: يحرم عليك الوقوف أمامها ؟! لا يوجد دليل واضح على حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً، وإنّما يلتزم بحرمة إلقاء النفس في التهلكة وما يُلحَق بالتهلكة ممّا يُعبر عنه بالضرر البليغ كقطع الأعضاء وأمثاله .
أمّا بالنسبة للأمر الثاني الذي ذكره، فهو تام أيضاً، يعني مسألة عدم السراية، بمعنى أنّ الوضوء و الإضرار بالنفس وجودان متغايران تماما، ومتعلّق النهي هو شيء والوضوء شيء آخر تماماً، الوضوء ليس هو متعلّق النهي ولا يسري إليه النهي، وإن كان سبباً في حصول المنهي عنه، لو قلنا بحرمة الإضرار بالنفس الذي يسببه الوضوء، لكن يبقى متعلّق النهي هو الإضرار بالنفس، والوضوء ليس متعلّقاً للنهي ولا حراماً ولا مبغوضاً وإن كان سبباً في حصول المبغوض، إذا قلنا بعدم السراية أيضاً ما ذكره(قدّس سرّه)يكون تاماً وهو أنّه لا موجب للحكم ببطلان الوضوء، الوضوء صحيح وليس فيه مبغوضية، لم يتعلّق به النهي وليس حراماً ويكون واجداً لجميع الشرائط المعتبرة فيه بما فيها قصد القربة كما ذكرنا؛ لأننا نتكلّم في صورة الجهل، والجاهل يتأتى منه قصد القربة، فيحكم بصحته .
خلاصة الكلام هو : أنّ التزام المشهور بالصحة في صورة الجهل بالضرر لا يصح تفسيره على أساس ما قد يُفهم منه من أنّ الضرر المراد في القاعدة هو الضرر المعلوم لا الضرر الواقعي، قد يُقال في مسألتنا أنّهم يلتزمون بأنّ الضرر الواقع في (قاعدة لا ضرر) لا يُراد به الضرر الواقعي، وإنّما يُراد به الضرر المعلوم؛ ولذا طبّقوا القاعدة في موارد العلم بالضرر، ومنعوا من تطبيقها في موارد الجهل بالضرر، طبّقوا القاعدة في موارد العلم بالضرر، فالتزموا بنتائج القاعدة، ولم يطبّقوها في موارد الجهل بالضرر؛ لأنّ موضوع القاعدة الذي هو الضرر المعلوم ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ غير متحقق، حيث في موارد الجهل بالضرر لا يكون الضرر معلوماً، فيحكم بصحة الوضوء .
تبيّن ممّا تقدّم أنّ المسألة ليست مرتبطة بتحديد ما هو المراد بالضرر في القاعدة، وأنّ المراد به هو الضرر المعلوم لا الضرر الواقعي، كلا ، المراد هو الضرر الواقعي لا الضرر المعلوم، لكن الذي دعاهم إلى الحكم بالصحة في صورة الجهل بالضرر هو وجود خصوصية تمنع من الحكم بالصحة، وهذه الخصوصية هي ما تقدّم سابقاً، وهي تامّة وهذه الخصوصية هي أنّ الضرر في صورة الجهل به لا يستند إلى الحكم الشرعي حتى يرتفع بالقاعدة. ونكرر مرّة أخرى؛ لأنّ مفاد القاعدة هو نفي الحكم المسبب للضرر بحيث يستند الضرر إليه، في حال العلم بالضرر يُقدم المكلّف مستنداً إلى الحكم الشرعي، لكن في حال الجهل بالضرر هو على كل حال يقدم على الضرر، سواء بقي الحكم(وجوب الوضوء)، أو انتفى الحكم(وجوب الوضوء) على كل حال هو جاهل بالضرر، يعني يعتقد أنّ هذا الوضوء هو الواجب عليه، وأنّه لا يتضررّ به، ويتوضأ على كل حال، يعني يقع في الضرر على كل حال، وقوعه في الضرر ليس مستنداً إلى وجوب الوضوء حتى يقال أنّ هذا الوجوب هو الذي أوقعه في الضرر فينتفي بالقاعدة، كلا سواء كان هناك وجوب وضوء أو ارتفع وجوب الوضوء، هو وقع في الضرر على كل حال لجهله بالضرر . مثل هذا الحكم(الوجوب) في حالة الجهل بالضرر لا تشمله القاعدة، فيحكم بصحته ليس من جهة أنّ الضرر الوارد في القاعدة هو عبارة عن الضرر المعلوم؛ كلا بل هو الضرر الواقعي، والضرر الواقعي مفروض في مسألتنا، لكن المشكلة تنشأ من جهل المكلّف بالضرر، هذا هو الذي يمنع من شمول القاعدة لهذه المسألة . هذا هو السبب في حكمهم بالصحة، وليس حكمهم بالصحة ناشئ من تقييد الضرر في القاعدة بالضرر المعلوم .
وأمّا ما تقدّم من الاستدلال على عدم شمول القاعدة للمقام، يعني للوضوء في حال الجهل بالضرر، الاستدلال على ذلك بقرينة الامتنان، وقد تقدّم سابقاً أنه يقال أنّ القاعدة لا تشمل الوضوء في صورة الجهل بكونه مضرّاً؛ لأنّ مساق القاعدة هو مساق الامتنان، هذا أصل موضوعي نأخذه بشكلٍ مسلّم، وهذا الامتنان يمنع من شمول القاعدة؛ لأنّ هذا المكلّف الجاهل بالضرر إذا توضأ، ولنفترض أنه رتّب بعض الآثار على هذا الوضوء، بأن صلّى بعض الصلوات بهذا الوضوء، وبعد ذلك تبيّن أن هناك ضرراً واقعياً، فنحكم نحن بفساد وضوئه، يعني نقول أنّ القاعدة تشمله، فننفي وجوب الوضوء، وبالتالي تنفي صحة الوضوء، فيُحكم بفساد وضوئه . نفي الحكم المستلزم لإثبات فساد الوضوء، هذا ليس امتنانياً، لا نمن على هذا المكلّف بـأن نرفع عنه الحكم ونثبت فساد وضوئه؛ لأنّ الحكم بفساد وضوئه يعني أنّ عليه إعادة الوضوء وإعادة الصلاة التي صلاّها بذلك الوضوء . هذا ليس امتنانياً، والحديث مسوق مساق الامتنان؛ فلذا هو لا يشمل كل مورد يكون فيه نفي الحكم فيه خلاف الامتنان، ونفي الحكم في صورة الجهل خلاف الامتنان؛ لأنّه يستلزم إثبات بطلان الوضوء ووجوب الإعادة، وهذا على خلاف الامتنان . هذا الدليل الثاني المتقدّم لمنع شمول القاعدة لمحل الكلام .
أقول: هذا الدليل يمكن التأمّل فيه، الدليل الصحيح هو ما تقدم مما قلناه من أنّ الضرر في حالة الجهل لا يستند إلى الحكم الشرعي، فلا يكون مشمولاً للقاعدة، لكن هذا الدليل قد يُتأمّل فيه من جهة أنّ جهل المكلّف بالضرر لا يستلزم هذا أن لا يكون في نفي الحكم امتنان؛ بل نفي الحكم فيه امتنان، حينما يكون الوضوء سبباً في حصول الضرر، وجوب الوضوء يكون ضررياً، فنفي هذا الحكم فيه امتنان، هذا النفي الذي هو امتناني لا يختص بصورة العلم بالضرر؛ بل يشمل كلتا الصورتين، صورة الجهل بالضرر وصورة العلم بالضرر، وسواء علم المكلّف بالضرر، أو جهل بالضرر، نفي وجوب الوضوء الضرري فيه امتنان على الأمة، فإذا كان المكلّف جاهلاً بالضرر وتوضأ؛ فحينئذٍ نقول أنّ وضوئه محكوم بالفساد على مقتضى القاعدة؛ لأنّه لمّا كان الحكم بوجوب الوضوء ضررياً، فسوف تشمله قاعدة لا ضرر وتنفيه، وهذا مآله في الواقع والحقيقة إلى تقييد الأدلة العامّة بغير موارد الضرر، ممّا يعني أنّ التشريع وأدلّة الصحة لا تشمل الوضوء الضرري، فيختص الحكم بوجوب الوضوء بالوضوء غير الضرري، أساساً يختص الوجوب بغير الوضوء الضرري، وبما أنّ هذا الوضوء الذي توضأ به المكلّف الجاهل بالضرر هو وضوء ضرري ــــــ بحسب الفرض ــــــ لذا لا يكون مأموراً به، فيفسد من هذه الجهة، أي يفسد على القاعدة؛ حيث لا نستطيع أن نقول أنّ هذا الحكم بفساده هو خلاف الامتنان، فلا تشمله القاعدة. الحكم بنفي وجوب الوضوء الضرري هو حكم امتناني، ومعنى هذا النفي كما قلنا هو تقييد الوجوب والحكم الشرعي بغير موارد الضرر ممّا يعني أنّ الوضوء الضرري ليس مورداً لأدلة المشروعية والصحة ، فإذا جاء المكلّف بالوضوء الضرري كما هو المفروض؛ حينئذٍ يكون هذا الوضوء محكوماً بالفساد، باعتبار عدم انطباق المأمور به عليه؛ لأنّ المأمور به هو عبارة عن الوضوء غير الضرري .