33/04/04
تحمیل
(بحث يوم الاثنين 4 ربيع الثاني 1433 هـ 84)
كان الكلام في الصورة الأولى من صور الدعوى وهي ما إذا أقرّ المُدّعى عليه بالحقّ واعترف به وقلنا إنه لا إشكال في جواز أن يستند الحاكم إلى هذا الإقرار في حكمه من جهة كونه من طرق الإثبات في باب القضاء ، وكانت هذه الصورة تتضمّن فروعاً ثلاثة وهي ما لو عُلم بكون المدين المقر بالدين واجداً للمال وما لو عُلم بكونه معسراً وما لو لم يُعلم بحاله وانتهينا من بيان هذا الفروع الثلاثة لنُنهي بذلك الكلام حول هذه الصورة .
الصورة الثانية : ما لو أنكر المُدّعى عليه ما ادُّعي به عليه من الحقّ وجحده .
قال في المتن :
" الثانية: إنكار المُدّعى عليه فيطالَب المُدّعي بالبيّنة فإن أقامها حُكم على طبقها وإلا حلف المنكر ".
والظاهر أنه لا إشكال ولا خلاف بين المسلمين قاطبة - بل ربما بين غيرهم أيضاً على ما نُقِل في أنه بعد إنكار المُدّعى عليه لدعوى المدّعي وعدم اعترافه بها يُطالب المُدّعي بالبيّنة فإن جاء بها حُكم له بموجبها وإن لم يأتِ بها طُولب المنكر باليمين ، وتدلّ على هذا الحكم روايات كثيرة :
منها : صحيحة جميل وهشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على من ادّعى واليمين على من أدُّعي عليه "
[1]
.
ومنها : صحيحة بريد بن معاوية : " قال سألته عن القسامة فقال : الحقوق كلّها البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه إلا في الدم خاصة "
[2]
.
ومنها : معتبرة أبي بصير : " قال : إن الله حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم ، حكم في أموالكم أن البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه ، وحكم في دمائكم أن البيّنة على من ادُّعي عليه واليمين على من ادّعى ، لكيلا يبطل دم امرئ مسلم "
[3]
.
وروايات أخرى غيرها بمفادها .
قال في المتن :
" فإن حلف أي المنكر - سقطت الدعوى " .
هذا الحكم واضح وهو يُفهم من الأدلة السابقة حيث اقتصرت في بيان وظيفة كل من المُدّعي والمنكر على مطالبة الأول بالبيّنة والثاني باليمين ولم تزد على ذلك فيُفهم أنه بيمين المنكر تنتهي الدعوى ..
مضافاً إلى دلالة روايتين على ذلك :
إحداهما : عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَلَه ذهبت اليمين بحقّ المُدّعي فلا دعوى له "
[4]
إلى آخر الرواية .
والأخرى : ما رواه الصدوق (قده) مُرسلاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال : " من حلف لكم بالله على حقّ فصدّقوه ومن سألكم بالله فأعطوه ، ذهبت اليمين بدعوى المُدّعي ولا دعوى له "
[5]
.
ودلالتهما صريحة بأن اليمين تُسْقِط الدعوى ، وطريق الصدوق إلى ابن ابي يعفور تامّ وإن كان فيه أحمد بن محمد بن يحيى العطّار لأنه وإن كان لم يُنَصّ على وثاقته إلا أن الظاهر كما ذكرنا في محلّه - أنه يمكن توثيقه استناداً إلى بعض القرائن منها ما ذكره ابن نوح بقوله : " الذي اعتمد عليه من الطرق هو طريقان في أحدهما يقع العطّار المذكور " فيُستفاد منه أن العطار محلّ اعتماد لابن نوح ، وقد جاء هذا في ضمن كتاب بعث به إلى النجاشي بعد أن طلب منه النجاشي أن يبيّن طرقه إلى كتب الحسين بن سعيد فذكر له ابن نوح طرقاً عديدة ثم قال ما تقدّم نقله عنه .
على أنه لا يضرّ وقوعه في السند مع مجهولية حاله لكونه شيخ إجازة فذِكْرُه شرفيّ بحت .
وعلى ما تقدّم فطريق الشيخ الصدوق إلى عبد الله بن أبي يعفور تام .
هذا .. وكان المفروض من ناحية منهجية أن يُقدّم البحث عن مسألتين فيهما بحث طويل في هذا الباب:
الأولى : في تحديد معنى المُدّعي والمنكر ، وذلك لكثرة ذكرهما من غير أن يُبيَّن أولاً ما هو المراد منهما ، وقد تعارف أن يُذكرا في فصل خاص سمّوه أحكام الدعاوى وسيتعرّض له السيد الماتن (قده) قريباً حيث طُرحت هناك مسألة تحديد المناط في كون الشخص مُدّعياً أو منكراً .
الثانية : في أحكام البيّنة وشروطها ، وقد تعارف ذكرها في كتاب مستقل سُمّيَ بكتاب الشهادات حيث يُبحث فيه عن شروط الشاهد وماذا يُعتبر في البيّنة .
وقد جرت عادة الفقهاء على تأخير هذين البحثين ونحن نتبعهم في ذلك لئلا يقع الارتباك وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالى .
ثم قال في المتن :
" ولا يحلّ للمُدّعي بعد حكم الحاكم التقاصُّ من مال الحالف " أي لا يجوز له أن يأخذ المقدار الذي يعتقد أنه ثابت له في ذمة الحالف لأن يمين المنكر وحكم الحاكم قطعا ذلك ومنعاه منه .
وهذا الحكم مدلول الروايات السابقة ولاسيما رواية ابن أبي يعفور ومرسلة الصدوق فإنهما صريحتان في أن اليمين ذهبت بحقّ المُدّعي أو ذهبت بالدعوى فلا يبقى له حقّ حتى يثبت له حكم التقاصّ في ما لو وقع بيده مال للمنكر .
وفي المقام روايتان ذُكرتا في المصادر ولكن لضعفهما سنداً تُساقان للتأييد على المعنى المتقدّم :
الأولى : رواية خضر النخعي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده قال : إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه "
[6]
.
ودلالتها على عدم جواز التقاصّ بعد الاستحلاف ظاهرة ، والراوي لها - وهو خضر النخعي - ممن لم يوثّق في كتب الرجال ، وأما بقية رجال السند فكلهم ثقات .
الثانية : رواية عبد الله بن وضّاح : " قال : كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف وقد علمت أنه حلف يميناً فاجرة فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة فأردتُ أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده وحلف عليها فكتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام) وأخبرته أني قد أحلفته فحلف وقد وقع له عندي مال فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلتُ ؟ فكتب (عليه السلام) : (لا تأخذ منه شيئاً إن كان قد ظلمك فلا تظلمه ولولا أنك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذها من تحت يدك ولكنك رضيت بيمينه فقد مضت اليمين بما فيها) فلم آخذ منه شيئاً وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السلام) " .
ودلاتها على ما نحن فيه ظاهرة أيضاً ، ولكن سندها مخدوش برجال عدّة .
ويُفهم من تقييده في المتن عدم التقاصّ بكونه بعد حكم الحاكم أنه لا يكفي مجرد يمين المنكر في سقوط الدعوى بل لا بد من أن يُضمّ إليه حكم الحاكم وهو مبني على ما هو الصحيح والمعروف من أن الذي يُنهي الدعوى والخصومة هو حكم الحاكم لا اليمين وحده فلا يجوز للمُدّعي بعدها أن يطالب بحقّه ويُقيم الدعوى ولو عند حاكم آخر .
نعم .. ظاهر الروايات المتقدّمة أن هذا الحكم يترتب على يمين المُدّعى عليه لأنها تصرّح بأن اليمين ذهبت بدعوى المُدّعي ومقتضاه الالتزام بعدم جواز التقاصّ بمجرد حصول الحلف من المُدّعى عليه من دون توقّفه على صدور الحكم من الحاكم .
ولكن هذا الظاهر مما لم يلتزم به الفقهاء (رض) وذلك لما أشار إليه الشيخ صاحب الجواهر (قده) من أننا لو التزمنا بهذا الظهور فحينئذ لا نحتاج إلى حكم الحاكم في فضّ الخصومة وإنهاء الدعوى بل يكون يمين المنكر هو المتكفّل بذلك كما تتكفّل بيّنة المُدّعي به لو أقامها قبل يمين المنكر ، ولا يخفى بطلان هذا اللازم
[7]
، نعم .. لا ضير في أن يكون حكم الحاكم معتمداً على بيّنة المدّعي أو يمين المنكر فإنهما من طرق الإثبات القضائي ولكن الفيصل في الدعاوى هو لا مجرد البيّنة أو اليمين ، ومن هنا لا يمكن الأخذ بظاهر هذه الروايات ولا بد من تأويلها بالاعتبار المذكور من اعتماد الحكم عليها واستناده إليها .
ثم قال (قده) :
" نعم .. لو كذّب الحالف نفسه جاز للمُدّعي مطالبته بالمال فإن امتنع حلّت له المقاصّة من أمواله "
الظاهر أن هذا الاستدراك مما لا خلاف فيه ونُقل عليه الإجماع من قبل علمائنا فإن الإقرار من المنكر بعد الإنكار يُبيح للمُدّعي أن يأخذ من أمواله بقدر حقّه من باب المقاصّة في ما إذا امتنع المدين المقرّ من الأداء بعد مطالبة المُدّعي .
ويدل عليه معتبرة مسمع أبي سيّار
[8]
: " قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : اني كنت استودعت رجلا مالاً فجحدنيه وحلف لي عليه ثم إنه جاءني بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه فقال : هذا مالك فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك واجعلني في حلّ فأخذت المال منه وأبيتُ ان آخذ الربح منه وأوقفته المال الذي كنت استودعته واتيتُ حتى استطلع رأيك فما ترى ؟ قال : فقال : خذ نصف الربح وأعطه النصف وحُلّه إن هذا رجل تائب والله يحبّ التوّابين "
[9]
.
ودلالتها على المُدّعى ظاهرة من حيث إن المنكر حلف بعد عدم وجود بيّنة للمُدّعي ولكنه رجع وأقرّ بالحقّ فحكم الإمام (عليه السلام) بجواز أن يأخذ المدّعي حقّه منه بل وما استتبعه من الربح أيضاً .
هذا من جهة الدلالة ، وأما من جهة السند فطريق الشيخ الصدوق إلى مسمع بن عبد الملك لا يخلو من إشكال وهو يتمثّل في القاسم بن محمد وفيه كلام إلا أن الظاهر أن المقصود به هو القاسم بن محمد الجوهري فإنه هو الذي ينصرف إليه اللفظ عند الإطلاق ، وقد ذكرنا في محلّه أنه يمكن توثيقه باعتبار ما ثبت بطريق صحيح من رواية بعض المشايخ عنه من الذين لا يروون ولا يُرسلون إلا عن ثقة ، ومن هنا يظهر أن الرواية معتبرة سنداً ويمكن الاستدلال بها في محل الكلام .
يبقى هنا شيء وهو أنه قد يقال بأن هذا الحكم - أعني رجوع الحقّ للمدّعي المستلزم لجواز أخذه من الطرف الآخر بعد ذهابه بيمينه
[10]
- مخالف للروايات السابقة التي تقول بأن اليمين ذهبت بحق المُدّعي أو أنها ذهبت بالدعوى فكيف يمكن أن يعود حقّ المُدّعي بعد أن ذهب بيمين المنكر بتكذيب المنكر لنفسه أليس هذا يعني وجود تنافٍ بين الدليلين
[11]
ومعه كيف يمكن الجمع بينهما ؟
هذا ما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى .
[1] التهذيب مج6 ص229 ، الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب الثالث الحديث الأول مج27 ص233 .
[2] الكافي مج7 ص361 ، الوسائل الحديث الثاني مج27 ص234 .
[3] الكافي مج7 ص362 الوسائل الحديث الثالث مج27 ص234 .
[4] الكافي مج7 ص417 ، الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب التاسع الحديث الأول مج27 ص245 .
[5] الفقيه مج3 ص62 ، وفي هامشه قال : (لم أجده مُسنداً وجعله في الوسائل تتمة لخبر ابن أبي يعفور) ولذلك احتمل شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) أن يكونا رواية واحدة .
[6] الكافي مج7 ص418 ، الوسائل مج23 ص286 .
[7] أي عدم الاحتياج إلى حكم الحاكم في إنهاء الدعاوى وفضّ الخصومات .
[8] وهو مسمع بن عبد الملك الملقب بكردين .
[9] التهذيب مج7 ص180 ، الوسائل أبواب الأيمان الباب الثامن والأربعون الحديث الثالث مج19 ص89 .
[10] أي بيمين الطرف الآخر وهو المنكر .
[11] أي بين دليل ذهاب اليمين بحقّ المُدّعي وبين مفاد رواية مسمع أبي سيّار من أنه يحقّ للمدّعي أن يأخذ الحقّ من المنكر بعد تكذيبه لنفسه .