33/03/26
تحمیل
(بحث يوم الأحد 26 ربيع الأول 1433 ه 78)
تقدّم الكلام في الفرع الرابع حول كتابة الإقرار بعد الحكم وينبغي في ذيله ذِكْرُ شيء ذُكِر في كلمات الفقهاء وهو أنه لا بد في كتابة الحاكم من أن تكون بنحوٍ يُؤمَن معه من التزوير بأن يثبت المحكوم عليه للحاكم قبل الكتابة باسمه ونسبه أو مطلق ما يرفع الإبهام والالتباس كالمشخّصات الخارجية حتى لا يكون ثمة مجال لأن يدّعي
[1]
اسم شخص آخر ونسبه .
هذا .. وقد كان الكلام في أن المقر إذا كان واجداً للمال وامتنع عن الأداء فيجوز للحاكم أن يُغلّظ له في القول إن نفع وإلا جاز له أن يحبسه ، واستُدلّ على جواز الحبس بروايات :
الأولى :
صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : " كان علي (عليه السلام) لا يحبس في الدين إلا ثلاثة : الغاصب ومن أكل مال اليتيم ظلماً ومن اؤتمن على أمانة فذهب بها وإن وجد له شيئاً باعه [2] غائباً كان أو شاهداً " [3] .
صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : " كان علي (عليه السلام) لا يحبس في الدين إلا ثلاثة : الغاصب ومن أكل مال اليتيم ظلماً ومن اؤتمن على أمانة فذهب بها وإن وجد له شيئاً باعه [2] غائباً كان أو شاهداً " [3] .
هكذا في الوسائل بلفظ (الدين) ولكن في الكافي والتهذيبين بلفظ : (السجن) بدله ، والرواية تامة سنداً.
ووجه الاستدلال بها في المقام مبني على إدراج محلّ الكلام
[4]
في أحد العناوين الثلاثة المذكورة في المستثنى
[5]
والعنوان المؤهّل لذلك هو الغصب لأن المدين الواجد للمال الممتنع عن الأداء يكون غاصباً فإذا دخل تحت هذا العنوان فالرواية تدلّ حينئذ على جواز حبسه وإذا استُظهر أن حبس الغاصب إنما هو من باب العقوبة فينطبق هذا أيضاً على المقام ، فهنا دعويان :
الأولى : أن محلّ الكلام يندرج تحت عنوان الغاصب المحكوم بالحبس .
الثانية : أن الحبس هو من باب العقوبة .
أما الدعوى الأولى : فالظاهر أن الأصحاب لم يفهموا هذا المعنى من الرواية
[6]
كما يظهر من الشيخ (قده) في التهذيب وغيره ممن تأخّر عنه بل فهموا منها معنى يتنافى مع مدلول الروايات الآتية من جواز حبس المدين ولذلك حاولوا علاج هذا التنافي بحمل الصحيحة على معانٍ أُخَر فكأنهم فهموا اندراج محلّ الكلام في المستثنى منه لا المستثنى أي أنهم فهموا أن ما نحن فيه داخل تحت قوله : (لا يحبس في السجن) وليس داخلاً تحت أحد العناوين الثلاثة التي هي مشمولة للحبس ولا ريب أن نفي الحبس عنه بموجب هذا الفهم يتنافى مع ما تدل عليه الروايات الآتية من جواز حبسه ولذا قال الشيخ (قده) في رفع هذا التنافي : " هذا الخبر وخبر طلحة بن زيد لا ينافيان خبر زرارة الذي ذكر فيه أنه ما كان يحبس إلا الثلاثة الذين ذكرهم لأن ذلك الخبر يحتمل شيئين أحدهما : أنه ما كان يحبس على جهة العقوبة إلا الذين ذكرهم ، والوجه الثاني أنه ما كان يحبسهم حبساً طويلاً إلا الذين استثناهم لأن الحبس في الدين إنما يكون بمقدار ما يبيّن حاله فإن كان مُعدماً وعلم ذلك منه خلّاه وإن لم يكن مُعدماً ألزمه الخروج منه "
[7]
فتصدّيه (قده) لرفع التنافي بأحد الوجهين المذكورين يدلّ على أنه فهم من الصحيحة أن محل الكلام لا يدخل في المستثنى تحت عنوان الغاصب وإنما يدخل في المستثنى منه فتكون الصحيحة من أدلة عدم حبس المدين لا من أدلة حبسه .
ويؤيد هذا المعنى ما رواه الشيخ الكليني عن عبد الرحمن بن الحجاج مرفوعاً : " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان لا يرى الحبس إلا في ثلاث : رجل أكل مال اليتيم أو غصبه أو رجل اؤتمن على أمانة فذهب بها "
[8]
فإن من الواضح أن محلّ الكلام لا يدخل في أيّ من هذه العناوين إذ لم يُفرَض فيه أنه أكل مال يتيم أو غصبه أو اؤتمن على أمانة فذهب بها وإنما فُرض أنه مدين أقرّ بدينه وامتنع عن أدائه .
وأما الدعوى الثانية : فلا يبعد أن يكون المفهوم من الرواية أن الحبس لأجل العقوبة إذ بعد الالتزام بعدم اندراج ما نحن فيه تحت عنوان الغاصب فأيّ مانع من أن يقال إن هذا الحبس هو لأجل عقوبة أولئك المذكورين جزاءَ لما ارتكبوه من الاعتداء على مال الغير وأكل مال اليتيم وخيانة الأمانة وعلى ذلك فهي تنفي الحبس من باب العقوبة عن المدين الذي هو غير الثلاثة بعد دخوله في المستثنى منه وهذا لا ينافي أن يُحبس من باب آخر كالاستظهار
[9]
أو الإلزام بالأداء
[10]
فلا يكون دلالة هذه الصحيحة على عدم حبس المدين من باب العقوبة منافياً لدلالة بعض الروايات الآتية من جواز حبسه استظهاراً لحاله أو إجباراً له على الأداء .
الرواية الثانية : رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : " أنه قضى أن الحَجْر على الغلام حتى يعقل ، وقضى (عليه السلام) في الدين أنه يحبس صاحبه فان تبيّن إفلاسه والحاجة فيُخلّى سبيله حتى يستفيد مالاً
[11]
، وقضى (عليه السلام) في الرجل يلتوي على غرمائه
[12]
أنه يُحبس ثم يأمر به
[13]
فيُقسّم ماله بين غرمائه بالحصص فإن أبى باعه
[14]
فقسّمه بينهم "
[15]
.
هذه الرواية تدل على جواز حبس المدين الممتنع من الأداء لا من جهة التأديب والعقوبة بل من أجل إجباره على أداء الدين .
وهذه الرواية رُويت بطريقين أحدهما للشيخ الطوسي والآخر للشيخ الصدوق (قدهما) ولكنها غير تامة بكلا الطريقين :
أما الأول :
فإن الشيخ لم يذكر طريقه إلى الأصبغ بن نباتة في المشيخة ، نعم .. ذكر في الفهرست طريقه إليه لكنه لم يكن إلى مطلق مروياته ومنها محلّ الكلام وإنما هو إلى خصوص ما رواه من عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر ووصيته (عليه السلام) إلى ولده محمد بن الحنفية والأول صحيح والثاني لا يخلو من ضعف - .
فإن الشيخ لم يذكر طريقه إلى الأصبغ بن نباتة في المشيخة ، نعم .. ذكر في الفهرست طريقه إليه لكنه لم يكن إلى مطلق مروياته ومنها محلّ الكلام وإنما هو إلى خصوص ما رواه من عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر ووصيته (عليه السلام) إلى ولده محمد بن الحنفية والأول صحيح والثاني لا يخلو من ضعف - .
وأما الطريق الثاني :
فإن الشيخ الصدوق وإن كان قد ذَكَر طريقاً له إلى الأصبغ بن نباتة إلا أنه ضعيف بمحمد بن علي ماجيلويه إذ المعروف عدم ثبوت وثاقته وإن كان الصدوق قد ترضّى عنه ، ولو تجاوزنا هذا الإشكال بالبناء على أن الترضّي علامة الجلالة وقلنا بوثاقته لذلك فلا يمكن تجاوز كون من يروي عنه ابن ماجيلويه - وهو أبوه - مجهولاً .
فإن الشيخ الصدوق وإن كان قد ذَكَر طريقاً له إلى الأصبغ بن نباتة إلا أنه ضعيف بمحمد بن علي ماجيلويه إذ المعروف عدم ثبوت وثاقته وإن كان الصدوق قد ترضّى عنه ، ولو تجاوزنا هذا الإشكال بالبناء على أن الترضّي علامة الجلالة وقلنا بوثاقته لذلك فلا يمكن تجاوز كون من يروي عنه ابن ماجيلويه - وهو أبوه - مجهولاً .
الرواية الثالثة : موثّقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " إن علياً (عليه السلام) كان يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر به فيقسّم ماله بينهم بالحصص فان أبى باعه فقسّم بينهم - يعني ماله "
[16]
، وفي مضمونها بل بألفاظها رواية غياث بن إبراهيم
[17]
إلا أن المذكور فيها (يُفلّس) مكان (يحبس) والمراد من التفليس هو المنع من التصرّف بالمال وهو أعم من المدّعى
[18]
فالاستدلال يكون برواية عمار لورودها بلفظ الحبس ، وقد رُويت هذه الرواية بطريقين أحدهما للشيخ الطوسي والآخر للشيخ الكليني (قدهما) وكلا الطريقين صحيح .
الرواية الرابعة : رواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) : " أن علياً (عليه السلام) كان يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء وإن لم يكن له مال دفعه
[19]
إلى الغرماء فيقول لهم اصنعوا به ما شئتم إن شئتم آجروه وإن شئتم استعملوه "
[20]
.
ودلالة هذه الرواية على المدّعى من الحبس في الدين ظاهرة .
وللكلام بقية ستأتي إن شاء الله تعالى .
[1] أي هذا المحكوم .
[2] أي لغرض وفاء دينه الذي ثبت بأحد الأسباب الثلاثة المذكورة .
[3] الوسائل أبواب القضاء الباب الحادي عشر في كيفية الحكم الحديث الثاني مج27 ص248 ، الكافي مج7 ص263 ، التهذيب مج6 ص299 .
[4] أي على جواز حبس المدين الواجد للمال الممتنع عن الأداء .
[5] وإلا لو كان مندرجاً في المستثنى منه لكانت الرواية دالّة على عكس المقصود لأن الحكم بالحبس منفي عن المستثنى منه .
[6] أي لم يفهموا من الرواية أن المدين الممتنع عن الأداء داخل في الغاصب .
[7] التهذيب مج6 ص299 .
[8] الكافي مج7 ص263 الحديث الحادي والعشرون .
[9] في ما إذا لم يكن قد تبيّن حاله من كونه واجداً للمال أو معسراً .
[10] في ما إذا كان قد عُلم كونه واجداً للمال .
[11] أي يُحبس استظهاراً ، وهو يتأتّى حيث لا يُعلم حال المدين من حيث واجديته للمال فإن تبيّن أنه معسر يُطلق سراحه .
[12] يعني يمتنع من أداء الدين لهم .
[13] أي يأمره أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن يُقسّم هو ماله بين غرمائه .
[14] أي أمير المؤمنين (عليه السلام) .
[15] التهذيب مج6 ص232 ، الفقيه مج3 ص28 .
[16] التهذيب مج6 ص191 ، الكافي مج5 ص102 .
[17] الوسائل مج18 ص416 .
[18] يعني الحبس .
[19] أي دفع المدين نفسه إلى الغرماء .
[20] التهذيب مج6 ص300 ، الوسائل الباب السابع من أبواب الحجر أيضاً الحديث الثالث مج18 ص417 .