38/01/15
تحمیل
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/01/15
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
لا زال الكلام في نقل ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) من مطلب يتضمّن جملة من الأمور، نقلنا بعض هذه الأمور في الدرس السابق، والآن نكمل نقل الباقي .
بعد أن ذكر ما تقدّم ذكره في الدرس السابق تعرّض إلى وجه تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، وهذه مسألة من المسائل المهمّة المطروحة التي اختلفت فيها الآراء من حيث أنّه ما هو الوجه في تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ؟ ذكر أنّ الوجه في التقديم هو عدم معارضة الدليل الحاكم للدليل المحكوم ، أصلاً لا يوجد بينهما تنافٍ؛ فلذا يؤخذ بكلٍ منهما، وعدم المعارضة هو الوجه في العمل بالدليل الحاكم . وذكر في مقام الاستدلال على ذلك بأنّ مفاد الدليل المحكوم هو إثبات الحكم على تقديرٍ، يعني على تقدير ثبوت الموضوع، فالحكم يكون ثابتاً؛ لأنّه مجعول على نهج القضية الحقيقية . هذا هو مفاد الدليل المحكوم، فهو لا يتعرّض إلى ثبوت ذاك التقدير أو عدم ثبوته، أصلاً ليس من شأن الدليل المحكوم المجعول على نهج القضية الحقيقية التعرّض إلى ثبوت ذلك التقدير أو عدم ثبوته، هو ساكت عن ذلك، وإنّما مفاده أنّه على تقدير ثبوت هذا الموضوع؛ حينئذٍ يكون الحكم ثابتاً، فما يتعرّض له الدليل المحكوم هو ثبوت الحكم على تقدير تحقق الموضوع، أمّا أنّ الموضوع متحقق أو غير متحقق، فهذا لا يتعرّض له الدليل المحكوم.
أمّا مفاد الدليل الحاكم، فهو يتعرّض إلى ثبوت ذلك التقدير، أو نفي ذلك التقدير، على اختلاف الحكومة الموسعة والمضيّقة، ومن هنا يظهر أنّه لا تنافي بينهما، الدليل المحكوم يقول: (على تقدير أن يكون ذلك الإنسان عالماً يجب إكرامه)، والدليل الحاكم يقول: (زيد ليس عالماً) يتعرّض إلى نفي ذاك التقدير، أو إثباته في فردٍ هو ليس داخلاً في الموضوع حقيقة . ومن هنا يظهر أنّهما لا يتّفقان على أمرٍ معين ويكون أحدهما نافياً له والآخر مثبتاً له، أو بالعكس حتى يقع بينهما التعارض، سرّ المعارضة بين الدليلين هو أنّهما يلحظان أمراً واحداً، وأحد الدليلين ينفيه والآخر يثبته، أو بالعكس، فتقع بينهما المعارضة، بينما في الدليل الحاكم والدليل المحكوم نرى أنّ أحد الدليلين يتعرّض إلى ما لا يتعرّض له الآخر، الدليل المحكوم يتعرّض إلى إثبات الحكم، فمنظوره هو الحكم على تقدير تحقق الموضوع، بينما الدليل الحاكم يتعرّض إلى إثبات ذاك التقدير، أي يتعرّض إلى تحقق الموضوع، أو ينفي تحققه . إذن: هما لا يتعارضان على نقطةٍ واحدة يختلفان فيها حتى يتحقق بينهما التعارض، وإنّما أحدهما يكون ناظراً إلى مسألة الحكم ويثبت الحكم على تقدير تحقق الموضوع، والآخر ينفي الموضوع، ومن هنا لا تقع بينهما معارضة . ويقول: هذا هو الوجه في تقديم الدليل الحاكم والعمل بالدليل الحاكم في باب الحكومة . هذا أيضاً ذكره، وبعد ذلك طبّق هذا الكلام على محل البحث وهو حديث لا ضرر ، وذكر أنّ حديث لا ضرر يتقدّم على أدلة الأحكام الأولية بالحكومة؛ لأنه يكون متعرّضاً لحال أدلة الأحكام الأولية ودالاً على المراد منها جداً وواقعاً، وأنّ المراد بأدلة الأحكام الأولية ليس هو الإطلاق، ليس هو ثبوت الحكم مطلقاً في حال الضرر وفي غير حال الضرر، وإنّما المراد الجدّي هو إثبات هذه الأحكام في غير حالة الضرر، فيكون حاكماً على أدلة الأحكام الأولية .
هذا المطلب فيه ملاحظات ذُكرت في كلمات الأعلام نذكر بعضها:
بالنسبة إلى ما ذكره من مسألة الفرق بين التخصيص وبين الحكومة، هو ذكر بأنّ الفرق بين التخصيص وبين الحكومة هو أنّ القرينية في التخصيص تكون عقلية بينما القرينية في الحكومة تكون عرفية، هي مفاد نفس الدليل؛ ولذا تكون القرينية حكومة .
بعبارةٍ أخرى: أنّ كون الخاص بيان للمراد من العام، بيانية الخاص على المراد من العام عقلية، بينما بيانية الدليل الحاكم على المراد من الدليل المحكوم هي بيانية عرفية مدلولة للدليل اللّفظي . وعللّ هذا المطلب في باب التخصيص، وأنّ القرينية والبيانية تكون عقلية، بأنّه في باب التخصيص الخاص ليس فيه ما يشير إلى وجود الدليل العام ولا يُفهم منه التعرّض لحال دليلٍ آخر كما هو الحال في الحكومة، عندما يقول: (لا تكرم زيداً) حتى إذا لم نفترض وجود عام أيضاً يصح تقبّل هذا الدليل . فليس فيه ما يشير إلى وجود العام، وليس متعرّضاً لحال العام إطلاقاً، الخاص هو دليل مستقل في حد نفسه . لماذا إذن يتقدّم الدليل الخاص على العام ؟ في باب الحكومة التقدّم باعتبار أنّ الحاكم بنفسه متعرّض للدليل المحكوم ومفسّر له، سواء كان التفسير بالنصوصية (أعني، أقصد)، أو كان التفسير على اساس الظهور الموجود في الدليل الحاكم، وأنّه يكون متعرضاً وناظراً إلى الدليل المحكوم، فيُقدّم الحاكم على هذا الأساس؛ لأنّه متعرّض لحال دليل آخر . هو يقول: أنّ المقصود بهذا العام ليس هو العموم، وإنّما المقصود هو ما عدا هذا الفرد الذي أخرجه الدليل الحاكم، فيتقدّم عليه على هذا الأساس . هذه النكتة ليست موجودة في باب التخصيص، الخاص ليس متعرّضاً للدليل العام ولا يُفهم منه النظر إلى الدليل العام؛ بل تقبّله لا يتوقف على افتراض وجود دليل عام كما ذكر .
إذن: لماذا يتقدّم الخاص على العام ؟ هو يقول: أنّ التقدّم إنما هو باعتبار أنّ العقل يدرك وجود تنافٍ بين الدليلين؛ لأنّ العام يثبت الحكم على نحو العموم، يعني في جميع الأفراد بما فيها الفرد الداخل في الخاص هو يثبت فيه الحكم، بينما الخاص ينفي عنه الحكم، فيتعارضان، في مورد الخاص هناك تعارض بين العام وبين الخاص، العام يثبت فيه الحكم بعمومه، أو بإطلاقه، بينما الخاص ينفي عنه الحكم، يقول: (لا تكرم زيداً العالم) فهذا يثبت الحكم في زيد العالم، باعتباره عالم، وهذا ينفي عنه الحكم، فإذن: هما متنافيان متعارضان لا يمكن اجتماعهما، ولا يمكن أن يصدرا من الملتفت العاقل الحكيم مع هذا التنافي الموجود بينهما . في هذه الحالة، يقول: أنّ العقل يلحظ أنّ الخاص إمّا نص في مورده، أو أظهر في مورده؛ فحينئذٍ يحكم العقل بأنّ المراد من العام ما عدا الخاص، وهذا هو معنى التخصيص . هذا كلّه يثبت بحكم العقل، يعني كون الخاص بياناً للمراد الجدّي من العام يثبت ، لكن بحكم العقل، بينما الأمر ليس هكذا في باب الحكومة، كون الحاكم بياناً للمراد الجدّي من المحكوم لا يثبت بحكم العقل، وإنّما يثبت بحكم الدلالة العرفية التي هي مدلولة لهذا الكلام، فالدلالة هناك عقلية، وفي باب الحكومة الدلالة عرفية .
يُلاحظ على هذا الكلام: إذا كان الميزان في كون القرينية عقلية هو التنافي بين الدليلين وعدم إمكان الجمع بينهما، فيمكن أن يقال أنّ هذا الميزان موجود حتى في باب الحكومة . إذن: فلتكن القرينية في باب الحكومة أيضاً عقلية، لماذا نفرّق بينهما ؟ أمّا وجود هذا الميزان في باب الحكومة، فباعتبار أنّ الدليل الحاكم وإن كان ينفي موضوع الدليل المحكوم عن هذا الفرد، لكن هذا النفي ليس نفياً حقيقياً جزماً في باب الحكومة، ليس نفياً تكوينياً في باب الحكومة، وإنّما هو نفي تعبّدي . يعني عندما يقول الدليل: (لا ربا بين الوالد والولد) لا يُفهم منه أنّ النفي فيه نفي تكويني للربا عن المعاملة الربوية الواقعة بين الوالد والولد، وإنّما هو نفي تعبّدي، ومرجع النفي التعبّدي للربا بين الوالد والولد إلى نفي الحكم، واقع المطلب أنّ الدليل الذي يقول: (لا ربا بين الوالد والولد) يريد أن يقول أنّ الربا ليس حراماً، لا أنّه يريد أن ينفي الربا واقعاً، وإنّما الغرض من هذا اللسان هو نفي الحكم، لكن الدليل الحاكم لا ينفي الحكم مباشرة عن المعاملة الربوية الواقعة بين الوالد والولد، وإنّما ينفيه بلسان نفي الموضوع، ومن هنا يظهر أنّ الدليل الحاكم في هذا المثال ونحوه إنّما هو ينفي الحكم الثابت في الدليل المحكوم، وهذا يحقق التعارض والمنافاة؛ لأنّ هذا الفرد، وهو المعاملة الربوية بين الوالد والولد، بعد الفراغ عن أنّها معاملة ربوية لعدم وجود نفي حقيقي؛ حينئذٍ يتحقق فيها الموضوع في كلٍ من الدليلين، هذه باعتبارها معاملة ربوية، يقول الدليل المحكوم: (يحرم الربا)، فيثبت فيها الحكم، بينما الحاكم عندما يقول: (لا ربا بين الوالد والولد) ويكون المقصود الأساسي والجدّي هو الحكم، يكون نافياً للحكم .
إذن: أحد الدليلين يثبت الحكم في هذا الفرد، والآخر ينفي الحكم في هذا الفرد، وهذه هي المضادّة . نفس المضادّة والمنافاة الموجودة بين العام والخاص موجودة في محل الكلام .
هذا قد يصح عندما يكون النفي نفياً تكوينياً؛ حينئذٍ تخرج هذه المعاملة عن كونها ربا، فلا تكون هناك معارضة، لكن عندما يكون النفي نفياً تعبّدياً كما هو المفروض في محل الكلام، ومرجع النفي التعبّدي للموضوع بلا إشكال إلى نفي الحكم . إذن: في موردٍ واحد أحد الدليلين يثبت الحكم فيه والآخر ينافي الحكم عنه، فيكون حاله حال العام والخاص، فإذا كانت المنافاة والمضادّة هي الميزان في كون القرينية عقلية، وكون البيانية عقلية، فهذا موجود في الحكومة أيضاً، فلماذا نفرّق بينهما ؟
لكن الصحيح هو أساساً أنّ الميزان ليس هو هذا، لا معنى لأن نقول أنّ البيانية هنا عقلية حتى مع فتراض المنافاة بين الدليلين بهذا البيان؛ إذ لا معنى لأن نقول أنّ كون الخاص بياناً للمراد الجدّي من العام، هو ثابت بحكم العقل، العقل لا مسرح له في هذه الأمور. نعم، العقل يُدرك أنّ بين هذا الدليل وهذا الدليل توجد منافاة، باعتبار وحدة الموضوع، نفس الفرد، هذا يثبت فيه الحكم، وذاك ينفي عنه الحكم . إذن: مع وحدة موضوع الدليلين، وكون أحدهما ينفي الحكم والآخر يثبته، العقل يدرك أنّ بينهما مضادة، لكن هل معنى ذلك أنّ العقل يحكم بتقدّم الدليل الخاص على الدليل العام على أساس النصوصية أو الأظهرية ؟ هذا هو الممنوع، لا معنى لأنّ نقول أنّ العقل يحكم بتقديم هذا الدليل على ذاك الدليل، هذا ليس من وظائف العقل، وظيفة العقل هي إدراك التضاد الموجود بين الدليلين، وهذا التضاد موجود في باب التخصيص، وفي باب الحكومة أيضاً . أمّا أن يُدّعى أنّ الذي يحكم بالتقديم في باب التخصيص هو العقل، فهذا غير صحيح؛ لأنّ العقل لا مسرح له بهذه الأمور، لا يقدّم العقل دليلاً على دليلٍ، ويستعين بالأظهرية، هذا كلام غير مقبول، وإنّما الظاهر أنّ التقديم في كلٍ منهما مبني على أساس عرفي، على أساس ظهور الدليل وليس كون الخاص بياناً، هذا ثابت بحكم العقل، وإنّما كل منهما ثابت بحكم الظهور الموجود في نفس الدليل، غاية الأمر أنّهما ــــــ التخصيص والحكومة ــــــ يختلفان في هذه الجهة، أنّ كون الخاص بياناً للمراد الجدّي من العام قرينة، لكن لم يتم إعدادها إعداداً شخصياً وإنّما هي ثابتة على أساس الإعداد النوعي .
في باب الحكومة الأمر يختلف، في باب الحكومة المتكلّم هو ذكر هذا الكلام وأعدّه لكي يكون قرينة على المراد الجدّي من الدليل المحكوم، بالضبط كما لو قال: بقولي (يحرم الربا) أعني المعاملة التي لا تقع بين الوالد والولد . هذا يتقدّم على الدليل المحكوم على أساس أنّ هذا جُعل قرينة لبيان المراد الجدّي من الدليل المحكوم، لكن هذه القرينية اُعدت إعداداً شخصياً من قِبل نفس المتكلّم . هذا في باب الحكومة .
في باب التخصيص لا يوجد إعداد شخصي، وإنّما يوجد إعداد نوعي لكون الخاص قرينة على بيان المراد الجدّي من العام، بمعنى أنّ العرف يعتبر أنّ سياق ظهور الخاص مع العام قرينة، أو قل بياناً ــــــ كما هو يعبّر ــــــ على المراد الجدّي من العام، وأنّ المراد الجدّي من العام ليس هو العموم، وإنّما هو ما عدا الخاص . ففي كلٍ منهما البيانية والقرينية ـــــــ إذا سلّمنا ذلك ـــــــ هي بيانية عرفية مستفادة من الدليل ومن ظهور الدليل مع فارقٍ بينهما هو أنّ البيانية هناك تكون مُعدّة إعداداً شخصياً في باب الحكومة، بينما هي مُعدّة إعداداً نوعياً من قِبل نوع المتكلّمين لبيان المراد الجدّي من العام؛ لأنّ العرف يجمع بينهما رأساً بتخصيص العام وحمله على إرادة ما عدا الخاص .
وذكر بعض المحققين بأنّ نفس المحقق النائيني(قدّس سرّه) في باب التعادل والتراجيح قدّم الخاص على العام على أساس القرينية لا على أساس الحكم العقلي، ولا على أساس الأظهرية التي ذكرها هو في كلامه، كأنّه يستشكل في كون الأظهرية هي الملاك في التقديم في باب التخصيص؛ لأنّ كون الأظهرية هي الملاك يستدعي أن نلاحظ العام ونلاحظ الخاص، فإذا كان الخاص أظهر قدّمناه، أمّا إذا لم يكن الخاص أظهر، لا نقدمه، وفي بعض حالات العموم والتخصيص يكون العام أظهر في الفرد من الخاص، ومقتضى كون الميزان هو الأظهرية هو أن لا نقدّم الخاص في حالات من هذا القبيل . فلم يذكر هناك أنّ الأظهرية هي الملاك في التقديم، ولا أنّ الخاص يتقدّم بحكم العقل، وإنّما ذكر بأنّه يتقدّم على أساس القرينية، وهذا ينافي ما ذكره هو .
في مقطع آخر ذكر أنّه لابدّ أن يكون الحاكم متأخّر زماناً عن المحكوم، وأنّ الدليل المحكوم لابدّ أن يتقدّم زماناً على الدليل الحاكم، وأعتبر هذا من نتائج ما ذكره من أنّ الدليل الحاكم يكون متعرّضاً لحال الدليل المحكوم، يقول: ومن لوازم (أنّ الدليل الحاكم يكون متعرّضاً لحال الدليل المحكوم)، هو أن يكون متأخراً زماناً عن الدليل المحكوم .
هذا المطلب أيضاً ليس واضحاً، والظاهر أنه لا يُبنى عليه، لا يقولون أنّ الدليل الحاكم لكي يكون حاكماً لابدّ من اشتراط تقدّم الدليل المحكوم عليه، بحيث أنّه في باب الجمع بين الأدلة عندما تكون هناك حكومة لابدّ أن نفتش أنّ الدليل المحكوم متقدّم زماناً على الدليل الحاكم، حتى نلتزم بالحكومة، أو غير متقدّم حتى لا نلتزم بالحكومة . الأمر ليس كذلك ، ما تقتضيه الحكومة هو أنّ الدليل الحاكم يكون متفرّعاً على الدليل المحكوم، يعني فُرض فيه وجود دليل آخر نُعبّر عنه بـــ(التبعية)، أو بـــ(النظر) أي يكون ناظراً إلى الدليل المحكوم . الحكومة لا تقتضي أن يكون الدليل المحكوم متقدّماً زماناً على الدليل الحاكم؛ كلا، ليكن الدليل المحكوم متأخّراً زماناً عن الدليل الحاكم، لكن الدليل الحاكم يكون متعرّضاً لحاله، ولو كان متأخراً زماناً، لا مشكلة في هذا ، التفرّع لا يعني أنّ هذا التفرّع هو من باب تفرّع المعلول على العلّة حتى يقال لابدّ أن يكون الحاكم متأخراً زماناً عن علّته، وإنّما بمعنى أنّ هذا الدليل الحاكم من توابع الدليل المحكوم، والتبعية لا تقتضي التأخر الزماني؛ بل يمكن أن يكون الشيء من توابع شيءٍ آخر مع كون ذلك الشيء الآخر متأخراً زماناً عن هذا التابع، الحكومة تقتضي أن يكون الدليل الحاكم افتُرض فيه بحسب مدلوله اللّفظي وجود دليلٍ آخر، والتعرّض لدليل آخر، وليكن هذا الدليل الآخر الذي يتعرّض له الدليل الحاكم يوجد بحسب التسلسل الزماني بعد ذلك.
إذن: لا يُشترط في باب الحكومة تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم بلحاظ الزمان .
المقطع الآخر من كلامه هو مسألة الوجه في تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم . هو ذكر بأنّ الوجه في التقديم هو عدم وجود تنافٍ ومعارضة بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم؛ لما ذكره وذكرناه قبل قليل من أنّ الدليل المحكوم يثبت الحكم على تقدير تحقق الموضوع، ولا يتعرّض الدليل المحكوم إلى ثبوت ذاك التقدير، أو عدم ثبوته، بينما الدليل الحاكم يتعرّض إلى ثبوت ذلك التقدير، أو نفيه . إذن: هما لا ينصبّان على مركز واحد حتى يتحقق بينهما التعارض، وهذا هو السرّ في تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم .
ويُلاحظ عليه: أنّ المعارضة بين الدليلين من شئون الإرادة الجدّية الحقيقية، فيتعارض الدليلان إذا اختلفا في المراد الجدّي، فإذا كان المراد الجدّي من هذا الدليل شيء، والمراد الجدّي من الدليل الآخر شيء آخر منافي له؛ فحينئذٍ يتعارضان، فإذا فرضنا أنّ المراد الجدي من أحد الدليلين كان هو إثبات الحكم من هذا المورد، وكان المراد الجدّي للدليل الآخر هو نفي الحكم في هذا المورد؛ حينئذٍ تتحقق المعارضة، لا يجوز لنا في مقام إثبات المعارضة، أو نفيها أن نقصر النظر على المراد الاستعمالي فقط ولا نلحظ المراد الجدّي ، إذا قصرنا النظر على المراد الاستعمالي، فمن الممكن أن نقول في باب الحكومة لا توجد معارضة كما قال؛ لأنّه بحسب المراد الاستعمالي أحدهما يثبت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع، الآخر ينفي ذاك التقدير، فلا توجد بينهما معارضة بحسب المراد الاستعمالي، المراد الاستعمالي في هذا الدليل الحاكم هو نفي الربا عن المعاملة الربوية بين الوالد والولد، وذاك يثبت الحكم في كل معاملة على تقدير أن تكون ربوية؛ فحينئذٍ يقال: لا ينصب هذا النفي والإثبات على مركز واحدٍ حتى يتحقق بينهما التعارض، ذاك يثبت الحكم، وهذا ينفي الموضوع، فلا منافاة بينهما، لكن هذا إذا قصرنا النظر على المراد الاستعمالي في الدليلين، لكن إذا لاحظنا المراد الجدّي فيهما وهو الميزان في باب المعارضة وعدمها، نجد أنّ المعارضة موجودة؛ لأننا قلنا أنّ المراد الجدّي من الدليل الحاكم هو نفي الحكم . (لا ربا بين الوالد والولد) هذا مجرّد لسان وتعبير الغرض منه هو نفي الحكم، فالمراد الجدّي من (لا ربا بين الوالد والولد) هو نفي التحريم تعبّداً وليس نفيه تكويناً، والنفي التعبّدي راجع إلى نفي الحكم .
إذن: المراد الجدّي من الدليل الحاكم هو نفي الحكم عن هذه المعاملة، بينما المراد الجدّي من الدليل المحكوم هو إثبات الحكم في هذه المعاملة، فيتحقق بينهما التعارض بلحاظ المراد الجدّي، فكيف نقول لا يوجد بينهما تعارض وتنافٍ، ونجعل هذا هو الوجه في تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ؟! بل يوجد بينهما تنافٍ وتعارض؛ لأنّ الميزان في باب المعارضة وعدم المعارضة أن يُلحظ المراد الجدّي النهائي للدليلين، فإن تنافيا فيه تحققت المعارضة، وإلاّ فلا تعارض بينهما، وبهذا اللحاظ، باعتبار المراد النهائي الجدّي للدليلين، نجد أنّ المعارضة بينهما موجودة؛ لأنّ الدليل الحاكم ينفي الحكم جداً عن هذا المورد، بينما الدليل المحكوم يثبت الحكم فيه، فيتنافيان كما قلنا على غرار التنافي بين العام والخاص .
إذن: لا يمكن أن نجعل عدم المعارضة بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم هو الوجه في هذا التقديم .