33/03/07
تحمیل
(بحث يوم الثلاثاء 7 ربيع الأول 1433 ه 66)
(مسألة 9) : يعتبر في سماع الدعوى أن تكون على نحو الجزم ، ولا تسمع إذا كان على نحو الظن أو الاحتمال .
اختلف علماؤنا في اشتراط الجزم في الدعوى فمنع بعضهم من سماعها إذا كانت ظنية أو احتمالية وأجاز آخرون سماعها مطلقاً فيقع الكلام أولاً في المقصود بهذا الشرط وثانياً في ذكر الأقوال في هذه المسألة :
فأقول : يمكن أن يراد بالجزم أحد معنيين :
الأول : الجزم النفسي ، وهو أن يكون المدّعي من حيث بناؤه النفسي جازماً بكون مضمون دعواه مطابقاً للواقع
[1]
.
الثاني : الجزم الصياغي ، وهو أن يكون المدّعي من حيث صياغة دعواه قد عبّر بشكل صريح أو ظاهر عن كونه جازماً بمضمون دعواه وإن لم يكن معتقداً في نفسه بذلك فعلاً .
ويمكن التعبير عن الأول بالجزم الواقعي لأنه ناظر إلى مرحلة الاعتقاد بحسب الواقع ، وعن الثاني بالجزم الظاهري لأنه ناظر إلى مرحلة التعبير عن الاعتقاد والكشف عنه .
وهل يشمل النزاع كلا المعنيين أم يختص بأحدهما دون الآخر ؟
اتّجاهات ثلاثة .. فظاهر كلمات بعضهم وكذا ظاهر بعض الأدلة أن النزاع يشمل كلا المعنيين ولكن ظاهر آخرين اختصاصه بالثاني
[2]
، قال صاحب الرياض : (واشتراط الجزم إنما هو في الصيغة لا في نفس الأمر والعقيدة ، كما صرّح به الشهيدان في النكت والمسالك والصيمري في شرح الشرائع)
[3]
.
هذا .. ولكن سيأتي أن بعض ما يُستدلّ به في المقام يناسب أن يكون المقصود بالجزم المعنى الأول
[4]
من قبيل ما ذُكر من أن الدعوى غير الجزمية حيث يُفرض فيها عدم وجود بيّنة لدى المدّعي فيطالَب المنكِر باليمين فإذا نكل وامتنع من الحلف فهنا لا يمكن ردّ اليمين على المدّعي لأن المفروض عدم كونه جازماً .
وهذا الكلام منهم إنما يناسب الجزم الواقعي فإن غير الجازم واقعاً هو الذي لا يتمكّن من الحلف لاستلزامه الكذب مع أن المتردّد ظاهراً لو كان جازماً واقعاً لجاز ردّ اليمين عليه والحال أن الدعوى غير الجزمية يمكن أن يُراد بها هذا المعنى أيضاً كما لو صيغت بصياغة الاحتمال أو الظن مع كون المدّعي جازماً واقعاً - فمن هذا يظهر أن هذه الصورة
[5]
غير منظورة لهم ، ولو كان محلّ الكلام عندهم أعمّ من المعنيين لفصّلوا في المدّعي بين كونه جازماً واقعاً حتى لو كان متردّداً ظاهراً فيحكموا بإمكان ردّ اليمين عليه وكونه غير جازم واقعاً فيحكموا بعدم إمكان ردّ اليمين عليه فحكمهم بعدم إمكان الردّ بقول مطلق من غير نظر إلى صورة التردّد الظاهري من حيث الصيغة مع الجزم الواقعي من حيث البناء النفسي يُعطي أن نظرهم مقصور على المعنى الأول .
وكيف كان فالأقوال في المسألة عديدة أهمّها أربعة :
الأول : الاشتراط مطلقاً ، بمعنى أن سماع الدعوى من قبل القاضي ووجوب النظر عليه فيها مختصّ بالدعوى الجزمية وأما الدعوى غير الجزمية فلا تكون مسموعة .. وهذا القول مختار كثير من علمائنا بل نُسب إلى المشهور .
الثاني : عدم الاشتراط مطلقاً ، بمعنى أن الدعوى مطلقاً جزمية كانت أو غير جزمية - تكون مسموعة .. وذهب إلى هذا القول فخر المحقّقين في الإيضاح
[6]
[7]
ومال إليه المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان .
الثالث : التفصيل بين صورتي التهمة وعدمها فإذا تضمّنت الدعوى اتّهاماً من المدّعي للمدّعى عليه فتُسمع وإن لم تكن جزمية وإلا فلا تُسمع إلا إذا كانت جزمية .
وهذا التفصيل نسبه المحقق صاحب الشرايع بعد أن اختاره
[8]
إلى بعض معاصريه والمقصود به شيخه نجيب الدين محمد بن نما كما ذكر ذلك فخر المحقّقين في الإيضاح .
الرابع : التفصيل بين ما يتعسّر الاطّلاع عليه كالقتل والسرقة فتُسمع الدعوى وإن لم تكن جزمية ، ومالا يتعسّر الاطّلاع عليه فلا تُسمع إلا إذا كانت جزمية .
هذه هي عمدة الأقوال في المقام وهناك أقوال أخرى أعرضنا عنها لعدم أهميّتها .
أما القول الأول
[9]
فقد استُدلّ له بأمور :
الأول : دعوى أن المتبادر من الدعوى ما كان بنحو الجزم لأنها في اللغة هي الإخبار الجازم فلا تصدق إلا إذا سيق الكلام بنحو الجزم لا بنحو الظن والاحتمال .
وتمامية هذا الدليل تتوقف على أمرين :
أولهما : افتراض أن المأخوذ في مفهوم الدعوى هو الجزم بحيث لا يصدق من دونه مفهوم الدعوى أصلاً .
ثانيهما : أن سماع المرافعة من قبل القاضي مشروط بصدق الدعوى عليها وحيث إن الدعوى منوطة بحسب الأمر الأول - بالجزم فالنتيجة أن الدعوى الجازمة هي التي تُسمع دون غيرها .
ولولا هذا الأمر الثاني لكان موضوع سماع القاضي ووجوب نظره أعمّ من أن تكون المرافعة جازمة أو غير جازمة فإن أقصى ما يثبت في الأمر الأول أن الدعوى قد أًخذ في مفهومها الجزم وليس في هذا تحديد كون موضوع ما يلزم القاضي سماعه والنظر فيه هو هذا الأمر دون غيره بل يكون الموضوع حينئذ المرافعة مطلقاً سواء كانت جزمية فتكون دعوى أو لم تكن فتكون محض مرافعة ولكن بعد اشتراط هذا الأمر الثاني الذي يُلزِم بصدق الدعوى على المرافعة وقد تبيّن من خلال الأمر الأول أن الجزم مأخوذ في مفهومها
[10]
فلا مجال حينئذ لسماع ما لم يكن جزمياً من المرافعات .
هذا .. وقد اختُلِف في الأمر الأول فأصرّ بعضهم على اعتبار الجزم في الدعوى بدعوى أنه هو المفهوم عرفاً من مثل قول القائل : (ادّعى عمرو على زيد مالاً) ، وأنكر آخرون أخذه في مفهومها مستشهدين بتفسيرها في كلمات اللغويين بالزعم الذي يأبى الحمل على الجزم بخصوصه وبصحة تقسيم الدعوى إلى جزمية وظنية واحتمالية من غير أدنى شعور بالمسامحة أو التجوّز وجداناً ، ولو كان الجزم معتبراً في الجامع
[11]
لم يصحّ هذا التقسيم لأنه يكون حينئذ من باب تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره .
وأما الأمر الثاني فقد استُدلّ له بما دلّ على أن (البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر) حيث يُفهم منه أن البيّنة الذي يطلبها القاضي لكي يرتّب عليها القضاء وما يستتبعه من الآثار هي بيّنة المدّعي وهذا اللفظ مشتق كما هو ظاهر من لفظ الدعوى فيكون معتبراً فيه ما هو معتبر فيها وقد اعتُبر فيها - بحسب الأمر الأول - الجزم فالنتيجة أن المرافعة لا بد أن تكون جازمة لتكون مسموعة وهذا معنى اشتراط صدق الدعوى عليها .
وهكذا بالنسبة إلى المدّعى عليه الذي قوبل في الأدلة بالمدّعي وورد فيها بعنوان المنكر وجُعل اليمين عليه فمقتضى هذه المقابلة يستدعي أن يكون يمينه الذي يُطالب به هو في دعوى جزمية فإن مقابله - وهو بيّنة المدّعي - هو في دعوى لا تكون إلا كذلك
[12]
، وأما إذا لم تكن كذلك فلا تكون مشمولة للأدلة التي تقرّر ضابطة كون البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر .
ومن هنا يظهر أن ترتيب الآثار على المرافعة ووجوب النظر على القاضي وسماعه لها منوط بأن يتمكّن من أن يفصل الخصومة الواردة فيها بالموازين المحدّدة له شرعاً وأهمّها البيّنة واليمين ، والأدلة دلّت على أن البيّنة التي تُطلب هي بيّنة الجازم بالخصوص دون غيره .
هذا .. ولكن يُلاحظ على هذا الدليل أن اعتبار الجزم ليس بذلك الوضوح وإن كان في نفسه محتملاً، على أن بعضهم حاول تعميم تشريع البيّنة لغير الدعوى الجازمة مع الاعتراف بأن الجزم مأخوذ في الدعوى وذلك بتقريب أن قوله (صلى الله عليه وآله) : (البيّنة على من المدّعي واليمين على من أنكر) لا يُفهم منه أن الرواية بصدد تشريع البيّنة لخصوص موردها وهو المدّعي - الذي هو بحسب الفرض مأخوذ في مفهومه الجزم - وإنما المفهوم منها أنها في مقام تطبيق كبرى ارتكازية على موردها ، والفرق بين المقامين أنه على الأول لا يمكن التعدّي من الدعوى إلى غيرها من المرافعة الظنية أو الاحتمالية - بناءً على أن الجزم مأخوذ في مفهوم الدعوى - في حين أنه على الثاني يمكن التعدّي إلى ذلك لأن البيّنة لا تختصّ حينئذ بالدعوى إذ الفرض أن الرواية ليست في مقام التشريع لخصوص موردها وإنما هي في مقام تطبيق أمر كلي ارتكازي على المدّعي فلا مانع من أن يكون شاملاً لغيره .
الدليل الثاني
[13]
: إن من لوازم الدعوى صحة ردّ اليمين على المدّعي في حالة نكول المدّعى عليه عن اليمين عندما لا تكون للمدّعي بيّنة وهذا يعني أن الدعوى جزمية لما تقدّمت الإشارة إليه من أن الدعوى حينما لا تكون جزمية لا يصحّ ردّ اليمين على المدّعي بل لا يجوز لعدم تمكّنه من الحلف لافتراض كونه غير جازم .
وأجيب عنه بأنه لا مانع من الالتزام بأن ما ورد في هذا الدليل هو من لوازم الدعوى الجزمية لا من لوازم الدعوى مطلقاً بمعنى أنه عندما تكون الدعوى جزمية فلازمها أنه في حالات النكول يُردّ اليمين على المدّعي وأما في حال عدم كونها جزمية فليس من لوازمها ذلك مطلقاً حتى يقال إن إمكان ردّ اليمين لا يحصل إلا في حالات الجزم فالدعوى غير الجزمية لا تكون مشمولة للمقام فلا تُسمع .
وبذلك يظهر أنه يمكن الالتزام أن القاضي في حال كون الدعوى جزمية يُطالب المدّعي بالبيّنة فإن لم توجد عنده بيّنة يُلقي اليمين على المنكر فإن نكل يردّ اليمين على المدّعي ، وأما في حال كونها غير جزمية فبعد عدم وجود بيّنة للمدّعي ونكول المُدّعى عليه عن اليمين لا يردّ القاضي اليمين على المدّعي حينئذ بل تتوقّف الدعوى ، ولا ضير في الالتزام بذلك فيكون المسار القضائي في الدعوى الجزمية بخطوات ثلاث وفي غير الجزمية بخطوتين فتكون الدعوى مسموعة مطلقاً
[14]
فإن القضاء موضوع لحلّ المنازعات وفضّ الخصومات فيلزمه النظر في جميع المرافعات لاسيما في الأمور المهمة أو في موضع التهمة أو مما يعسر الاطّلاع عليه فإن لازم عدم سماع بعض المنازعات بقاء الخصومات وهو خلاف مقتضى تشريع القضاء فلا بدّ لتحقيق الغرض من سماع الدعاوى مطلقاً أقصى الأمر رفع اليد عن ردّ اليمين إلى المدّعي غير الجازم في حالات النكول
[15]
.
[1] في مقابل ان يكون ظانّاً او محتملاً .
[2] أي الجزم الصياغي .
[3] رياض المسائل مج13 ص163 .
[4] أي الجزم الواقعي .
[5] أي المعنى الثاني وهو صورة التردّد من حيث الصياغة والتعبير مع كون المدّعي جازماً واقعاً .
[6] قال في الإيضاح (مج4 ص328) :
[7] " وذهب شيخنا أبو القاسم بن سعيد إلى اشتراط الجزم ، قال أي المحقق في الشرايع - : (وكان بعض من عاصرناه يسمعها في التهمة ويحلف المنكر وهو بعيد عن شبه الدعوى) - والأقوى عندي الأول خ - " انتهى ، فإن قول صاحب الإيضاح : (والأقوى عندي الأول الوارد في نسخة كما أشير إليه بالحرف : خ -) إنما يريد به ما ذهب إليه ابن نما من سماعها في التهمة الذي هو معنى عدم الاشتراط - فإن هذا هو (الأول) في مقابل ما ذكره المحقق في الشرايع بقوله : (وهو بعيد عن شبه الدعوى) الذي يمثّل تضعيفاً منه للقول بعدم الاشتراط وإشارة إلى مختاره وهو الاشتراط الذي ذكره صريحاً في الشرايع (مج4 ص872) حيث قال : (ولا بد من إيراد الدعوى بصيغة الجزم) .
[8] أقول : قد عرفت من الهامش السابق أن مختار صاحب الشرايع إنما هو الاشتراط لا هذا التفصيل كيف ! وقد ردّه بقوله : (وهو بعيد عن شبه الدعوى) فراجع وتحقّق .
[9] وهو القول المنسوب للمشهور .
[10] أي مفهوم الدعوى .
[11] يعني الدعوى .
[12] أي جزمية .
[13] ممّا استُدلّ به للمشهور .
[14] أي سواء كانت جزمية أو غير جزمية .
[15] أي امتناع المُدّعى عليه من الحلف .