38/01/16
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
38/01/16
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- النواهي.
وفيه:- صحيح أنّ الطبيعي له وجودات متعدّدة بعدد وجود أفراده كما قال المشهور ونحن نبني على ذلك ، ولكن هذا في عالم الخارج ، ففي عالم الخارج الطبيعي يتعدّد وجوده بوجود أفراده ، فإذا فرضنا أنه له عشرة أفراد فالطبيعي له عشرة وجودات ، وإذا كان يوجد مئة فرد فالطبيعي له مئة وجود وهكذا.
إذن بلحاظ عالم الخارج هذا الكلام تام متين صحيح ووجيه ، ولكن نقول الأمر بم يتعلق والنهي بم يتعلق هل يتعلق بالأشياء بوجودها الخارجي أو بصورها ومفاهيمها الذهنية ؟ فإذا قلنا الحكم يتعلّق بالوجودات الخارجية كما بنى عليه الشيخ الخراساني في الكفاية[1] في مبحث اجتماع الأمر والنهي في مقام اثبات الامتناع فإنه قال الحق الامتناع وذلك لمقدّماتٍ والمقدمة الثانية ذكر فيها أن الأحكام تتعلق بالوجودات الخارجية ، والنكتة واضحة لأنّ الوجود الخارجي هو مركز الآثار ، فالصلاة الخارجية هي التي تنفع ، وفي المقدمة الثانية أشار إلى ذلك وهو عبّر عن النكتة حيث قال إنّ الخارج هو مركز الآثار ، فإذا قلنا الأحكام تتعلّق بالوجودات الخارجية كما ذهب إليه الشيخ الخراساني فهذا الاشكال الذي ذكره الأصفهاني(قده) والخوئي(قده) على الخراساني(قده) يكون تاماً ، أما إذا قلنا بأنَّ الأحكام تتعلق بالصور والمفاهيم الذهنية فحينما يقال ( صلِّ ) الأمر يتعلّق بصورة الصلاة الذهنية ، والمقصود والمطلوب هو أنك حقِّق هذه الصورة الذهنية في الخارج ، فإذا قلنا هذا هو الصحيح وهو أنّ الأحكام تتعلق بالصور الذهنية والمطلوب تحقيقها في عالم الخارج فالحقّ مع الشيخ الخراساني(قده).
وحيث إنَّ الصحيح هو هذا ، يعني الأحكام تتعلق بالصور الذهنية وهو ما تعلمناه من الأصفهاني(قده) ولا تتعلق بالوجودات الخارجية فإنَّ هذا مضحك للثكلى لأنه إذا كانت الأحكام تتعلق بالوجودات الخارجية يعني هل الصلاة موجودة أو لست موجودة فإن كانت موجودة فيلزم أن يسقط الحكم لا أنه بعدما صلّيت الحكم يتوجه ، فإذا كانت الصلاة الخارجية موجودة فلا معنى لأن يقول لي المولى صلِّ لأنه طلب تحصيل الحاصل ، وإذا لم تكن موجودة فكيف يتعلّق بها الأمر فيكف يتعلق الأمر بالمعدوم ، فالصلاة حال انعدامها خارجاً لا وجود لها حتى يتعلّق بها الأمر وبعد وجودها في الخارج تحققت ولا معنى لطلب تحصيل الحاصل ، هذا مضافاً إلى أنه يلزم أنه لا يوجد عندنا عاصٍ في الدنيا ، لأنّ الذي لا يصلّي يقول الأحسن لي أن لا أصلي فإذا لم يصلِّ فصلاةٌ في الخارج ليست موجودة وإذا لم تكن موجودة فالأمر ليس موجوداً لأنّ الأمر يتعلّق بالصلاة الخارجية والصلاة ليست موجودة فلا أمر وإذا لم يكن أمرٌ فلا يكون عاصياً فلا يعاقب ، ومن هذا القبيل أنت تتمكن أن تجد محاذير أخرى ، فينبغي أن يكون من الواضحات أنّ الأحكام لا تتعلّق بالوجودات الخارجية.
وقد تقول لي:- إذن كيف يتعلّق بالصور الذهنية بما هي صور ذهنية فإنها لا تسمن ولا تغني من جوع ؟
وجوابه:- الصور الذهنية يمكن أن يرى بها الخارج بل عين الخارج ، فإنّ الله تعالى أعطى قدرةً للذهن البشري أنه يرى الخارج بالصورة الذهنية ، ولذلك الخطيب الحسيني حينما يقرأ ترانا نبكي ، وكيف نبكي فهو يطرح مفاهيم والفاظ ؟ لأنه بهذه الصور الذهنية كأنه نرى واقعة كربلاء فلذلك نأخذ بالبكاء ، فإذن الأحكام تتعلّق بالصور الذهنية لا بما هي صور ذهنية بل بما هي عين الخارج ويرى بها الخارج فالتفت إلى ذلك ، وهذا من النقاط والقضايا المهمة ، والمطلوب تحقيق هذه الصورة في عالم الخارج ، فالصحيح هو هذا.
إن قلت:- إنّ الصور الذهنية إذا كانت تلحظ بما هي عين الخارج فبالتالي سرى الحكم سرى إلى الخارج فعدنا إلى ما كنّا نفرّ منه ؟
والجواب:- إنّ هذه الرؤية مصحّحة للصورة الذهنية ، فالصورة الذهنية تلحظ بشكلين ، مرّة بما هي صورة ذهنية لا تورث البكاء والحزن أو الفرح ومرّة بما هي عين الخارج فحينئذٍ نبكي ونفرح ، ولكن هذا ليس معناه أنّ الحكم قد سرى إلى الخارج بحيث تعلّق بالموجود الخارجي ، إذ الصلاة خارجاً بعدُ ليست موجودة ، وإذا كانت موجود لا معنى لتعلّق الأمر بها لأن هذا طلب تحصيل الحاصل ، فهذه مجرّد رؤية وملاحظة مصحّحة لتعلّق الحكم وهي قضية عقلائية ، وهذا مطلبٌ تقبّلُه ليس بالأمر السهل وإنما يحتاج إلى تأمل وتدبّر من هذه الناحية.
وإذا قبلنا بهذا كما علّمنا نفس الشيخ الأصفهاني(قده) والأعلام بعدَه فبناءً على هذا يكون ما ذكره صاحب الكفاية شيئاً صحيحاً - وقصدي هو رأيه الأوّل الذي ذكرناه في صدر بحثنا حيث علل بنكتةٍ عقلية فقال إنّه في باب الأمر إذا قيل اشرب الماء يكفيك الشرب مرّة وإذا قيل لا تشرب الماء فيلزم أن تترك جميع الأفراد والنكتة عقلية فإنّ الطبيعة توجد بفردٍ واحدٍ وتعدم بترك جميع الأفراد - فحينما قلت الحق مع صحب الكفاية قصدي هو هذا ، ولماذا ؟ لأنّ الأمر حينما يقال اشرب الماء قد تعلق بالصوة الذهنية بما أنه يرى بها الخارج لكنها لم تنصبّ على الخارج وإلا عاد الاشكال ، فالخارج المتحقّق لا معنى لتعلّق التكليف به لأنه يلزم طلب تحصيل الحاصل ، بالتالي هو متعلّقٌ بالصورة الذهنية ، يعني حقِّق شرب الماء خارجاً ، ومعلومٌ أنَّ شرب الماء خارجاً يتحقّق بفردٍ واحد ، وإذا قيل لا تشرب يعني لا تحقّق هذه الصورة الذهنية خارجاً وعدم تحقيقها خارجاً يتحقّق بترك جميع الأفراد.
ولا معنى لأن يشكل الشيخ الأصفهاني وجماعة بأنّ الطبيعة لوحظت ضمن فردٍ واحد أو لوحظت ضمن جميع الأفراد.
فنقول لهم:- إنّ أصل طرح هذا التساؤل ليس بصحيح ، لأنه يطرح فيما إذا كان مصبّ الأحكام هو الوجودات الخارجية ، أما إذا كان مصبّ الأحكام هو الصور الذهنية فحينئذٍ لا معنى لطرح هذا التساؤل ، فأصل طرح هذا التساؤل يكون شيئاً ليس بصحيحٍ من الأساس.
فالحق إذن مع ما أفاده الشيخ الخراساني(قده) ، فالعلّة للاكتفاء في باب الأمر بوجود الفرد الواحد هو أنّ المأمور هو تحقيق الطبيعة في الخارج والطبيعة تتحقق بالفرد الواحد ، وأما في النهي حيث إنّ المطلوب هو عدم تحقيق الطبيعة وعدم تحقيقها في الخارج يكون بعدم جميع أفرادها فلابدّ من عدم جميع أفرادها ، فما أفاده يكون شيئاً وجيهاً.
النقطة الثالثة:- هناك فارق آخر بين الأمر والنهي ، ونحن ذكرنا فارقا أوّلاً وهو أنه في باب الأمر امتثال الأمر يكون بوجود فردٍ واحد وفي النهي يكون بترك جميع الأفراد ، وأما الفارق الثاني هو أنه في باب الأمر حينما يقال اشرب الماء ففي مثل هذه الحالة يكون الحكم واحداً وليس متعدّداًً ، يعني اشرب هذا الماء أو هذا الماء أو هذا الماء ، يعني حكم واحد ، بينما في باب النهي يكون الحكم متعدّداً بعدد أفراد الماء ، فلو فرض أنّ أفراد الماء كانت عشرة فتصير عشرة أحكام ، والدليل على أنّ الحكم في باب النهي ينحلّ إلى أحكام متعدّدة بعدّد أفراد الموضوع - الماء - بينما في الأمر لا يتعدّد هو أنه في باب النهي إذا شرب الانسان من الماء إناءً واحداً فيكون ممتثلاً من ناحية التسعة ويكون عاصياً من ناحية الواحد ، وإذا فرضنا أنه شرب جميع العشرة فسوف يعاقب على عصيان الأوّل والثاني والثالث .... والعاشر ، كمن شرب الخمر مراراً متعدّدة وبفوارقٍ زمنيّة ففي كلّ مرّة يعاقب ويُحَدّ على ذلك بعدّد المرات ، وتعدد الاطاعة والمعصية هذا يكشف عن انحلال الحكم وتعدّد الحكم ، هذا هو المنبّه والكاشف وهو الذي جعلنا نقول إنّ النهي المنصبّ على الطبيعة ينحلّ بعدّد أفراد الطبيعة بينما في الأمر لا يكون انحلالياً لأنه بالشرب مرّة واحدة للماء نقول له أحسنت أما لو شرب مرّةً ثانية فلا نقول له أحسنت مرة ثانية بل يكفي شربه مرّة واحدة أما شربه ثانياً وترك الشرب سيّان.
وهذا المعنى هو الذي عبّر عنه الشيخ النائيني بقوله ( فعلية الحكم بفعلية موضوعه ) ، يعني كلما يوجد فرد من المنهي عنه كالخمر يوجد ( لا تشرب ) جديد ... وهكذا ، ففعلية الحكم بفعلية موضوعه يعني يتعدّد الحكم ويصير فعلياً بفعلية الموضوع ، ومن الواضح أنّ هذا الانحلال له بعض الآثار والفوائد ، ومن آثاره وفوائده دفع الشبهة التي ذكرها الشيخ الأعظم في الرسائل في مبحث أصل البراءة في الشبهة التحريمية الموضوعية حيث قال إنَّ أصل البراءة يجري ، فلو فرضنا أننا وجدنا إناءً نشك أنه خمر أو ليس بخمرٍ فقال نطبّق أصل البراءة فنقول ( رفع عن امتي ما لا يعلمون ).
وهنا طرح شبهة:- وهي أنّ الخطاب الشرعي يقول لا تشرب الخمر والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وحيث إنّ ذمّتنا قد اشتغلت بترك شرب الخمر يقيناً فلابدّ من تفريغها يقيناًً ، ولا يمكن حصول التفريغ اليقيني إلا بترك هذا المشكوك ، ونصّ عبارته ( وتوهم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا نظراً إلى أن الشارع بيّن حكم الخمر مثلاً فيجب حينئذٍ اجتناب كلّ ما يحتمل كونه خمراً من باب المقدمة العلمية )[2] . فكيف ندفع هذه الشبهة ؟
والجواب:- إنه بناءً على فكرة الانحلال تندفع هذه الشبهة حيث نقول:- إن خطاب لا تشرب الخمر ينحلّ بعدّد أفراده ، فلو فرضنا أنه يوجد تسعة أفراد يقينية فهذه تسع خطابات هنا موجودة أما هذا الإناء الذي فيه سائل ونحتمل أنّ السائل ماء فنحن لا نعلم بوجود تكليفٍ بلحاظه فإنّ التكليف كما قلنا انحلالي بعدّد الأفراد وفعليته بفعلية موضوعه فينحلّ بعدد أفراد موضوعه وحيث نشك أنّ هذا خمر أو ليس بخمر فنشك هل اشتغلت ذمتنا بتركه أو لا ، وهذا شكٌّ في أصل الاشتغال وليس شكاً في الفراغ ، فإذن لا مجال للشبهة التي ذكرت.
إذن هذا الانحلال بعدد أفراد الموضوع له بعض الآثار ومن جملة آثاره هو ردّ شبهة الشيخ الأنصاري(قده).