33/02/09
تحمیل
(بحث يوم الثلاثاء 9 صفر الخير 1433 ه 54)
كان الكلام في التوقيع الشريف الذي رواه الشيخ الكشي عن بعض الثقات بنيسابور وكان الإشكال في سند هذا التوقيع من جهة أن الثقة الذي يخبر عنه غير معلوم لدينا حتى نحرز عدم وجود جرح وتضعيف بشأنه وكنّا قد ذكرنا طريقين للتغلّب على هذا الإشكال وتم الكلام فيهما .
وهاهنا نقول : إنه يرد على الطريق الأول
[1]
أنه لو تمّ فهو لا يُثبت إلا شهادة الكشي بعدم وجود جرح صادر ممن هو معاصر له أو سابق عليه ولكنه لا يُثبت عدم وجود جرح متأخر عنه فإن الشيخ الكشي إنما يشهد بحسب ما وصل إليه من كلمات الرجاليين ممن سبقه أو عاصره من أساتذته وقرنائه ومن الواضح أن هذا لا ينفي احتمال أن يكون قد صدر جرح متأخر عنه كما لو صدر من النجاشي أو الشيخ الطوسي (قدهما) فيعود الإشكال في السند حينئذ جذعاً .
ولكن هذا الإيراد مندفع فإن احتمال وجود جرح متأخر عن زمان الشهادة بالتوثيق الفعلي يمكن نفيه بالاستعانة بالوجوه الأخرى لحلّ الإشكال من الطريق الثاني المتقدّم
[2]
والثالث الآتي .
الطريق الثالث : وهو أن يقال :
إن الملاحظ بعد التتبع والتأمّل في كلمات الرجاليين التزامهم بالتنبيه على وجود المعارض لما يُثبتونه لو كان موجوداً فعلاً وليس هذا دأبهم في مقام التوثيق فحسب بل حتى في مجال إخبارهم بانتساب الشخص إلى العشيرة الفلانية أو تعيين سنة تولّده أو ذكر عام وفاته أو كونه يُكنّى بالكنية الكذائية أو كونه من أصحاب الإمام الباقر أو الصادق (عليهما السلام) - مثلاً وأنه قد روى عنهما إلى غير ذلك من الأحوال المعنيّ بذكرها في علم الرجال فإنهم إذا وجدوا لما ذكروه معارضاً نبّهوا عليه بقولهم: (وقيل كذا) .
ومن هنا يمكن أن يقال إنه إذا أُطلق التوثيق في كلامهم من دون الإشارة إلى وجود المعارض له فحينئذ يمكن الاستناد إليه لإثبات عدم وجود الجرح والتضعيف .
وهذا الوجه مع سابقه يمكن الاستناد إلى كل منهما لتجاوز المشكلة المتقدّمة ، نعم .. هذه الوجوه الثلاثة وإن كانت قد لا تجري جميعاً في كل الموارد إلا أنه يمكن دفع الإشكال بشكل عام في جميع الموارد استناداً إلى مجموع هذه الوجوه لا إلى كل وجه وجه منها .
نعم .. يرد على هذا الوجه بأن ما ذُكر فيه إنما يتمّ في خصوص ما لو فرضنا أن كلام الموثّق كان مسوقاً في الأصل لغرض التوثيق كما هو الملاحظ في مثل (رجال النجاشي) فإنه كتاب معدّ لهذا الغرض فإذا قال : (فلان ثقة) فهنا يمكن التمسّك بإطلاق كلامه لنفي وجود جرح بحقّ من وثّقه إذ لو كان لبيّنه وأشار إليه .
وأما إذا فرضنا أن الكلام كان مسوقاً لبيان شيء آخر وقد ذُكر فيه التوثيق عَرَضاً فليس من الواضح تمامية هذا الوجه في هذه الحالة كوضوحها في حال كون الكلام مسوقاً لغرض التوثيق .
هذا ما يمكن أن يقال في مقام دفع الإشكال عن سند هذه الرواية .. وقد تحصّل ممّا تقدّم أن سندها تام لثبوت وثاقة رجاله جميعاً
[3]
.
وأما من جهة الدلالة فقد استُدل بالرواية المبحوث عنها
[4]
[6]
على التفصيل بين حقّ الله فيكون علم الحاكم نافذاً فيه بلا حاجة إلى البيّنة ، وحقّ الناس فلا يكون علمه نافذاً فيه ، ومن الواضح أن هذا الاستدلال إنما يتم لو فرضنا أن الرواية تدلّ على كلا شقّي التفصيل بمعنى أنها كما تدل على نفوذ علم الحاكم في حقّ الله فهي تدلّ كذلك على عدم نفوذه في حقّ الناس .
ولكن الذي يظهر أن الرواية وإن كانت لها دلالة على الشقّ الأول من التفصيل المذكور
[7]
إلا أنها قاصرة عن الدلالة على الشقّ الثاني
[8]
إذ أن في مفادها احتمالين كلاهما لا يتكفّل بهذا المطلوب :
الأول : التفصيل بين حقّ الله وحقّ الناس من حيث المطالبة وعدمها بمعنى أنه يمكن للحاكم أن يستوفي حقّ الله تعالى بإقامة الحدّ من دون أن يتوقف ذلك على المطالبة به من قبل أحد بخلاف حقّ الناس فإن الحكم وإقامة الحدّ فيه تتوقف على المطالبة به من قِبَلهم فقَبْل المطالبة ليس من حقّ الحاكم أن يفعل شيئاً ، وأما نفوذ علم الحاكم فربما يكون كلا الحقّين مشتركاً فيه فإن الرواية حيث صرّحت بكونه نافذاً في حقّ الله تعالى فأيّ مانع من كونه نافذاً كذلك في حقّ الناس ، وهذا لو تمّ فإنه لا ينافي التفصيل المذكور الناظر إلى جهة المطالبة وعدمها .
الاحتمال الثاني : إنه بعد التنزّل والتسليم بدلالة الرواية على التفريق بين الموردين بلحاظ نفوذ علم الحاكم فيكون علمه نافذاً في حقّ الله دون حقّ الناس ولكن مع ذلك فهي لا تنفع في المقام لإثبات المقصود من الشقّ الثاني من التفصيل وهو عدم نفوذ علمه في حقّ الناس بعد المطالبة وإقامة الدعوى إذ لا دلالة فيها على ذلك ، ومن المعلوم أن عدم نفوذ علم الحاكم في حقّ الناس قبل المطالبة وإقامة الدعوى لا يستلزم عدم نفوذ علمه بعدهما ليثبت المطلوب إذ من الجائز أن يكون نافذاً بعد المطالبة وحينئذ لا يثبت المطلوب .
ولكن بالرغم من ذلك يمكن الالتزام بالتفصيل المذكور وإن لم تنهض الرواية بإثباته بكلا شقّيه وذلك بالاستناد إلى هذه الرواية نفسها في إثبات خصوص الشقّ الأول من التفصيل وهو نفوذ علم الحاكم في حقّ الله بلا حاجة إلى بينة أو توقّف على مطالبة فإن الرواية صريحة بهذا المعنى ، وأما الشقّ الثاني
[9]
فيمكن استفادته من جهة اقتضاء القاعدة الأولية في المقام
[10]
له فإنها تقتضي عدم نفوذ علم الحاكم في حقّ الغير خرج منها ما دلّ عليه الدليل
[11]
من نفوذه في حقّ الله وبقي الباقي تحتها - وهو عدم نفوذ علم الحاكم في حقّ الناس حتى بعد المطالبة وإقامة الدعوى - فإنه حيث لم يدل على استثنائه دليل يكون مشمولاً للأصل .
نعم .. لم تمّ لنا دليل من نصّ خاص أو عموم أو إطلاق فإنه يكون مُخرِجاً عن مقتضى القاعدة ولكن قد عرفت عدم تمامية شيء ممّا ذُكر من الأدلة فتكون النتيجة حينئذ الالتزام بنفوذ علم الحاكم في حقّ الله بمقتضى الدليل
[12]
والالتزام بعدم نفوذه في حقّ الناس بمقتضى القاعدة فيتم المطلوب وهو التفصيل المذكور ولكنْ تلفيقاً بين مقتضى الدليل اللفظي ومقتضى الأصل العملي .
نعم .. ثمة كلام في الدليل الأول
[13]
والإجماع - سيأتي ذكره - ، ولو أمكن إثبات شيء منهما فسيؤثّران حينئذ على النتيجة المذكورة .
هذا ما يمكن أن يقال في دلالة هذه الرواية وما تقتضيه في محلّ الكلام .. ولكن هناك اعتراض على الاستدلال بها في ما نحن فيه وحاصله : دعوى اختصاصها بالإمام المعصوم (عليه السلام) في موردها من نفوذ علم الحاكم في حقّ الله تعالى بلا حاجة إلى بيّنة أو توقّف على مطالبة وعدم شمولها لكل قاضٍ كما يُدّعى ثبوته في المقام ، والمستند في ذلك أمران :
الأول : التعبير بالإمام في لفظ الرواية في قوله (عليه السلام) : (الواجب على الإمام) فإن المتبادَر منه هو الإمام المعصوم (عليه السلام) .
الثاني : قوله (عليه السلام) فيها : (لأنه أمين الله على خلقه) ولا ريب أن هذا التعبير مما يختصّ به
المعصوم (عليه السلام)
[14]
فالتعدّي عنه إلى مطلق القاضي مشكل .
هذا اعتراض آخر يُسجّل على الرواية ويمنع من الاستدلال بها .. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .
[1] وهو أن يُستظهر من كلام الموثّق أنه في مقام التزكية والشهادة الفعلية بالوثاقة .
[2] وهو الالتزام بسقوط هذا الشرط في حالات عدم التمكّن كما هو محلّ الكلام .
[3] حيث تقدّم أن علي بن محمد الذي يروي عنه الشيخ الكليني هو علي بن محمد بن بندار الموثّق من قبل النجاشي ، ومحمد بن أحمد المحمودي ثبتت وثاقته بالتوقيع الشريف وقد دُفع الإشكال عن هذا التوقيع من جهة ما تضمّنه من الرواية عن بعض الثقات من غير تعيين ، وأحمد بن حماد المروزي المحمودي (الأب) ثبتت وثاقته أيضاً بكتاب الإمام الجواد (عليه السلام) لابنه في مقام تعزيته بوفاة أبيه ، وأما بقية رجال السند فلا خدشة فيهم فإن يونس - وهو يونس بن عبد الرحمن - معروف الجلالة والوثاقة ، وكذا الحسين بن خالد فإنه ثقة منصوص على وثاقته .
[4] وهي رواية الحسين بن خالد التي يرويها الشيخ الكليني (قده) عن علي بن محمد ، عن محمد بن أحمد المحمودي ، عن أبيه ، عن يونس ، عن الحسين بن خالد ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
[5] " قال : سمعته يقول : الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره لأنه أمين الله في خلقه ، وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه ويمضي ويدعه ، قلت : وكيف ذلك ؟ قال : لأن الحق إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته وإذا كان للناس فهو للناس " .
[6] التهذيب مج10 ص44 الوسائل الباب 32 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث الثالث مج28 ص58 .
[7] أي دلالتها على نفوذ علم الحاكم في حقّ الله .
[8] أي عدم نفوذ علم الحاكم في حقّ الناس .
[9] أي عدم نفوذ علم الحاكم في حقّ الناس بعد المطالبة وإقامة الدعوى .
[10] أي باب القضاء .
[11] وهو الرواية المبحوث عنها رواية الحسين بن خالد - .
[12] وهي رواية الحسين بن خالد المتقدّمة .
[13] وهي الآيات القرآنية التي تحدّثت عن الحكم بالحقّ والعدل والقسط .
[14] كما ورد التعبير بذلك في بعض الروايات الحاكية لزيارة الأئمة (عليهم السلام) ومنها ما يُزار به أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث جاء في بعضها : (السلام عليك يا أمين الله ..) .