33/02/02
تحمیل
(بحث يوم الثلاثاء 2 صفر الخير 1433 ه 50)
كان الكلام في أن علم القاضي هل هو من وسائل الإثبات في باب القضاء كالبيّنة ليجوز أن يقضي القاضي بعلمه أم لا .. وقد تقدّم ذكر الدليل الأول الذي استًدل به على الجواز وما اعترض به المحقق العراقي (قده) عليه ممّا حاصله :
أنه لو كان المراد بالعدل في الآيات الشريفة - وكذا سائر العناوين المذكورة فيها - هو العدل في الواقع ونفس الأمر فحينئذ لا يكون هناك وجه للحديث الشريف : (رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار) إذ كيف يمكن أن يكون هذا الرجل في النار والحال أنه قضى بالحقّ وقد فُرض أن الميزان هو القضاء بالحقّ الواقعي فمن هنا يُستكشف أن المراد بالحقّ وغيره من العناوين ليس هو الحقّ الثابت واقعاً بل الحقّ الثابت باعتبار الموازين المقرّرة في باب القضاء .. وبناء عليه فلا يصح الاستدلال بالآيات الشريفة المذكورة لأن الاستدلال بها مبنيّ على افتراض أن المراد بالحقّ هو الحقّ الثابت واقعاً وبقطع النظر عن الموازين وقد ثبت ولو بمعونة هذه القرينة أن المراد به هو الحقّ الثابت من خلال هذه الموازين لا الثابت بقطع النظر عنها .
وأقول : من الواضح أن هذا الاعتراض يُدّعى فيه ظهور الآيات الشريفة في إرادة العدل والقسط والحقّ الثابت بملاحظة موازين القضاء ولكن تارة يُدّعى الظهور الذاتي بمعنى ظهور الآيات بنفسها في ذلك المعنى - ، وأخرى يُدعّى ظهورها فيه بملاحظة القرينة الخارجية التي هي رواية (القضاة أربعة) المتقدّمة .
والأول خلاف الظاهر وعهدة دعواه على مدّعيها فإنه قد قُرِّر في محلّه أن الألفاظ التي تقع موضوعات في الأدلة الشرعية تُحمل على معانيها الواقعية ، وعلى هذا الأساس كان تعاملهم مع الأدلة فيحملون الخمر - مثلاً في قضية (الخمر حرام) على معناه الواقعي وهو الخمر الثابت واقعاً وفي نفس الأمر ولذا يعدّون العلم والقطع به علماً وقطعاً طريقياً ولا يفترضون أن المراد به في الدليل هو الخمر المعلوم الخمرية بحيث يكون أخذ العلم جزءاً من الموضوع ولا الخمر الثابتة خمريته عند جماعة من الناس أو باعتبار موازين معيّنة بل يقرّرون أن المراد ذات الخمر واقعاً وفي نفس الأمر وهكذا الحال في سائر العناوين المأخوذة في الأدلة فالعدل والقسط في الآيات القرآنية يُحملان على معناهما الواقعي وهو العدل والقسط الثابتان واقعاً وفي نفس الأمر .
إذا اتّضح هذا فإن كان مقصود المعترِض دعوى أن الآيات ظاهرة في إرادة العدل والقسط بحسب موازين معيّنة فهو على خلاف الظاهر والمصير إليه رهن بالقرينة عليه .
وأما إن كان مدّعاه كما لا يبعد أن يكون كذلك أن الآيات ظاهرة في هذا المعنى لا بنفسها بل بمعونة الرواية بمعنى أن الرواية هي التي تكون قرينة على التصرّف في الآيات الشريفة بأن تُحمل على خلاف ظاهرها وهو العدل الثابت بملاحظة هذه الموازين الثابتة في باب القضاء .. ففيه أن غاية ما يمكن أن تكون هذه الرواية قرينة عليه هو تقييد العدل الذي يجوز الحكم به بأن يكون عن علم بمعنى أن يكون القاضي عالماً بما يحكم به في مقابل ما إذا كان جاهلاً بالحقّ وإنما قضى به من باب المصادفة والاتفاق بل ربما كان يعتقد أن ما حكم به هو باطل وليس بحقّ .. فمفاد الرواية إذاً أن من يقضي بالحقّ من غير أن يكون على دراية ومعرفة سابقة بحكم القضية التي قضى بها فهو في النار فإن مجرّد مصادفة القضاء للحقّ غير كاف بل لا بد من أن يكون القاضي عالماً بحكم المسألة التي يريد القضاء بها ولذا فإن القاضي الذي يحكم بالحقّ عن معرفة وعلم
[1]
فهو في الجنة بنصّ الرواية .
فظهر مما سبق أن جعل هذه الرواية قرينة على التصرّف بالمراد من الحقّ في الآيات الشريفة ليكون هو الحقّ الثابت بحسب الموازين لا الحقّ الثابت واقعاً على خلاف الظاهر وإنما الظاهر كون الرواية قرينة على إضافة قيد جديد للحقّ المذكور الذي هو الحقّ الثابت واقعاً ليكون المراد النهائي هو أن حكم القاضي لا بد أن يكون عن علم ودراية فقضاؤه ولو كان موافقاً للحقّ إذا كان من باب المصادفة والاتّفاق غير جائز ويدخل مصداقاً في ما صرّحت الرواية به من أن من قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار .
فتحصّل ممّا تقدّم أن هذه القرينة المدّعاة على هذا التوجيه لا تضرّ بالاستدلال لأن الآيات الشريفة تبقى ظاهرة في لزوم الحكم بالحقّ الثابت واقعاً وفي نفس الأمر فيكون العلم به علماً طريقياً ومستلزماً لجواز القضاء به والحكم على طبقه وهو حجة بذاته ولا يحتاج في إثبات حجيته إلى التماس دليل آخر فيجوز للقاضي أن يستند في الحكم إلى علمه بأن هذا عدل وحقّ وقسط فيتم الاستدلال بالآيات من دون أن يرد عليه الاعتراض المذكور .
الدليل الثاني :
ما أُشير إليه في كلماتهم من أن عدم القضاء بعلم القاضي يستلزم إما فسق الحاكم أو إيقاف الحكم واللازم بشقّيه باطل فالملزوم [2] مثله فيثبت نقيضه [3] وهو المطلوب .
ما أُشير إليه في كلماتهم من أن عدم القضاء بعلم القاضي يستلزم إما فسق الحاكم أو إيقاف الحكم واللازم بشقّيه باطل فالملزوم [2] مثله فيثبت نقيضه [3] وهو المطلوب .
وذكروا في توضيحه أنه إذا طلّق رجلٌ زوجته ثلاثاً أمام القاضي ثم جحد الطلاق فبحسب موازين باب القضاء - كما هو واضح - يكون القول قوله مع يمينه لأنه منكر
[4]
ولكن القاضي يعلم بأنه طلّق زوجته ثلاثاً ولا يجوز إرجاعها إليه فحينئذ إن حكم القاضي بغير علمه بأن طلب من الرجل أن يحلف على أنه لم يُطلّق امرأته فحلف فسلّم القاضي له امرأته
[5]
ففي هذه الحالة يلزم فسق القاضي لأنه يعلم أن المرأة قد بانت منه بتطليقها ثلاثاً فانقطعت العصمة بينهما فلا تكون زوجة له وهو مع ذلك يُسلّمها إليه اعتماداً على يمينه ، وأما إذا أراد أن يحكم بعلمه فهنا يلزم إيقاف الحكم بلا موجب لأنه من جهة يُمنع من أن يحكم بعلمه - بحسب الفرض - ومن جهة أخرى يُلزَم بإعمال موازين باب القضاء من الاستحلاف واليمين وهو لا يريد أن يحكم بذلك بل يريد أن يحكم بعلمه فحينئذ يقف الحكم وتتعطّل الدعوى وهو لازم باطل أيضاً .
وهذان اللازمان الباطلان أعني فسق الحاكم وإيقاف الحكم إنما نتجا من القول بمنع القاضي من الحكم بعلمه ولا مجال للتخلّص منهما إلا بالقول بنقيض ملزومهما وهو جواز أن يحكم القاضي بعلمه فيثبت المطلوب .
وذكروا أيضاً في سياق هذا الدليل أن منع القاضي من أن يحكم بعلمه يستلزم عدم وجوب إنكار المنكر وعدم وجوب إظهار الحقّ مع إمكانه فالقاضي يرى بعينه المنكر أعني رجوع المرأة إلى فراش الرجل مع كونها قد بانت منه بطلاقه لها ثلاثاً بعلم القاضي ومع ذلك لا يُنكره بيده مع إمكان ذلك له .
ونوقش في هذا الدليل وما ذُكر له من اللوازم الباطلة بأن لزوم هذه الأمور فرع القول بكون العلم حجة كالبيّنة في باب الإثبات القضائي
[6]
، وأما مع إنكار ذلك والقول بأن المطلوب من القاضي إنما هو الحكم طبقاً للموازين المقرّرة في باب القضاء وليس منها علمه الخاص فحينئذ لا يلزم شيء ممّا ذُكر لأنه إذا كانت وظيفته الشرعية هي الحكم طبقاً للبيّنة واليمين - ولو علم أن الواقع خلاف مؤدّاهما - فلا يلزم فسقه لأنه حينما يُسلّم المرأة إلى الرجل إنما يفعل ذلك وفقاً لوظيفته المقررة شرعاً وكونه يعلم أن الواقع خلاف ذلك لا أثر له بحسب مقام الظاهر الذي عليه العمل في باب القضاء إذ الفرض عدم عدّ علم القاضي من وسائل الإثبات القضائي ، كما لا يلزم إيقاف الحكم كما هو ظاهر إذ بموجب الاستحلاف والحلف اللذين هما الوظيفة المقررة شرعاً بحسب الفرض حَكَم القاضي بكون المرأة زوجةً للرجل ، كما لا يلزم أيضاً عدم إنكار المنكر مع إمكانه لأن المفروض أن إرجاع المرأة إلى الرجل جرى وفقاً للوظيفة المقررة شرعاً وما كان كذلك لا يكون منكراً بل يكون حقّاً .
فتبيّن مما سبق أن هذا الدليل أشبه ما يكون بالمصادرة حيث يؤخذ العلم حجة في باب الإثبات القضائي ومن الوسائل المعتمدة فيه فتترتب تلك اللوازم مع أن كونه كذلك أول الكلام .
الدليل الثالث :
ما ذُكر في الجواهر وغيره من أنه لمّا كان المعلوم في وجه اعتبار البيّنة شرعاً في باب الإثبات القضائي إرادة الكشف بها وكان العلم أقوى كاشفية منها لكونه بذاته كاشفاً تاماً بخلافها حيث يكون كشفها ناقصاً وإنما يُتَمّ بالاعتبار الشرعي كان اعتباره في هذا الباب أولى .
ما ذُكر في الجواهر وغيره من أنه لمّا كان المعلوم في وجه اعتبار البيّنة شرعاً في باب الإثبات القضائي إرادة الكشف بها وكان العلم أقوى كاشفية منها لكونه بذاته كاشفاً تاماً بخلافها حيث يكون كشفها ناقصاً وإنما يُتَمّ بالاعتبار الشرعي كان اعتباره في هذا الباب أولى .
إذاً فهذا الدليل في الحقّيقة يستبطن أمرين :
الأول :
أن اعتبار البيّنة في باب القضاء إنما هو من باب كشفها عن الواقع وإن كان كشفاً ناقصاً إلا الشارع اعتبرها في هذا الباب بل في غيره أيضاً .
أن اعتبار البيّنة في باب القضاء إنما هو من باب كشفها عن الواقع وإن كان كشفاً ناقصاً إلا الشارع اعتبرها في هذا الباب بل في غيره أيضاً .
الثاني:
إن العلم أقوى كشفاً عن الواقع من البيّنة .
إن العلم أقوى كشفاً عن الواقع من البيّنة .
ونتيجة ذلك أن يكون العلم من وسائل الإثبات القضائي من باب أولى .
وستأتي المناقشة في هذا الدليل إن شاء الله تعالى .
[1] مطلقاً أي سواء كان عن اجتهاد أو تقليد - .
[2] وهو عدم القضاء بعلم القاضي .
[3] وهو جواز القضاء بعلم القاضي .
[4] بعد فرض عدم وجود بيّنة للمرأة على دعواها طلاقها من قبله .
[5] لأنها بعد إنكاره الطلاق وحلفه على ذلك يثبت ظاهراً كونها زوجته فتُسلّم إليه وهذا بحسب إعمال موازين باب القضاء ومنع القاضي من أن يحكم بعلمه كما هو المفروض في هذا الشقّ من الترديد .
[6] أي فرع القول بجواز الاستناد إلى العلم الخاص في مقام الإثبات في باب القضاء .