37/08/07
تحمیل
الموضوع:- مبحث الضد.
ثم ذكر(قده) قائلاً:- إن الخلط بين الأحكام الكلّية والأحكام الجزئية أدّى إلى نتائج باطلة في غير موردٍ ، يعني أنّ الفقهاء غاب عنهم ولم يميزوا أنّ الأحكام الشرعية كلية وليست جزئية ، فخفاء هذا المطلب أدّى إلى نتائج باطلة في غير موردٍ ، ومن أحد النتائج الباطلة هو أنه في باب العلم الاجمالي اشترط الأصوليون في منجّزية العلم الاجمالي أن يكون كلا الطرفين داخلين في محلّ الابتلاء أما إذا كان أحد الطرفين خارجاً كأن كان في القمر وأنا أعلم أنّ النجس إمّا هو الإناء الموجود عندي أو الإناء الموجود في القمر أو في بيت السلطان ففي مثل هذه الحالة العلم الاجمالي لا يكون منجزاً مادام أحد طرفيه خارجاً محلّ الابتلاء ، ولماذا ؟ قال الأصوليون:- إذا كان النجس هذا الإناء الذي أمامي فيقال يا فلان اجتنب عن هذا الإناء الذي هو أمامك ، أما إذا كان الإناء النجس في القمر أو في بيت السلطان فهل يقال هكذا أيضاً - أي يا فلان اجتنب الإناء الموجود في القمر - فهل استطيع الذهاب إلى القمر أو إلى بيت السلطان حتى تقول لي اجتنبه ؟!! إنّ هذا لغوٌ فلا يصحّ وهو قبيح عرفاً فإنّ بيت السلطان أنا لا أبتلي به أصلاً حتى تقول لي اجتنب عن ذاك الإناء ، فإذن لا يوجد لي علمٌ بتوجّه التكليف بل يوجد شكٌّ ، يعني على تقدير أنّ هذا الإناء الذي هو أمامي هو النجس فيتوجه لي ( اجتنب ) أما على تقدير كونه الإناء الموجود في القمر فلا يتوجّه لي ( اجتنب ) لأنه قبيح كما قلنا ، فإذن لا يوجد عندي علمٌ إجمالي بتوجّه التكليف إليَّ بل هناك شكٌّ ، هكذا ذكر الأصوليون.
وهو ردّ عليهم وقال:- هذا ليس بصحيحٍ فإنّ هذا نشأ من تصوّر أنّ الخطابات الشرعية خطابات جزئية ، فإذا كانت جزئية فصحيحٌ لا يقال لي يا فلان اجتنب عن إناء القمر ، أما إذا كانت خطابات الشارع كلّية فيكفي لصحّة توجيه الخطاب الكلّي قدرة بعض الأفراد مثل أولئك الأفراد الذين صعدوا إلى القمر ، فقدرة هؤلاء كافية أو قدرة الحواشي الذين يدخلون بيت السلطان ، فالقدرة بلحاظهم كافية.
والخلاصة:- إنَّ الذي ذكره الأصوليون من أنّ شرط تنجيز العلم الاجمالي أن تكون جميع الأطراف داخلة تحت محلّ الابتلاء يبتني على أنّ الأحكام الشرعية جزئية لا كلّية ، وحيث إنها كلّيه وفي الكلّي يكفي قدرة البعض فحينئذٍ لا يلزم في منجزية العلم الاجمالي دخول جميع الأطراف تحت محلّ الابتلاء.
ومن هنا لم يشترط(قده) ذلك في منجزيّة العلم الاجمالي.
ثم ذكر مؤيداً فقال:- إذا كان يلزم في الحكم أن يكون متعلقه داخلاً في محلّ ابتلاء الشخص فما رأيك إذا كان الشيء النجس كالدم موجوداً في القمر ، ففي مثل هذه الحالة هل هو نجس أو ليس بنجس ؟ إنّه على رأي الأصوليين يلزم أن يكون ليس بنجس وخطاب ( اجتنب ) لا يوجد بلحاظه لأجل أنه خارج عن محلّ الابتلاء ويشترط أن يكون الشيء مقدوراً وداخلاً في محلّ الابتلاء حتى يثبت له الحكم وهذا الشيء - أي الدم - خارج عن محلّ الابتلاء وليس مقدوراً للناس فثبوت النجاسة له يكون بلا وجهٍ فهو ، ليس بنجسٍ . هكذا سوف يصير الحكم على رأي الأصوليين ، وهكذا في بقيّة النجاسات كالمني والبول والميتة فإنها مادامت موجودة في القمر فهي ليست بنجسة لأجل أنه يشترط في ثبوت الحكم الشرعي القدرة والابتلاء بالمتعلّق وهذه ليست كذلك ، فمادمت موجودة في القمر فلم يثبت لها الشرع الحكم بالنجاسة ، وهل تلتزمون أيها الأصوليون بهذا الشيء ؟ إنكم لا تلتزمون بذلك.
إذن النتيجة هي أنه لا يلزم في متعلّق الأحكام الشرعية القدرة ، ونكتة عدم اعتبار القدرة أنها أحكام كلّية وليست جزئية ، فعليكم أن تميزوا بين الحكم الكلّي والحكم الجزئي ، ففي الحكم الجزئي يلزم القدرة والابتلاء ، أمّا في الحكم الكلّي فلا يلزم ذلك بل يكفي ابتلاء وقدرة البعض وإن لم يكن الجميع مبتلياً وقادراً.
هذا توضيح ما أفاده(قده) في الدليل الثاني.
وفيه:-
أما ما أفاده في بداية الدليل- من أنّ الأحكام الشرعية هي كلّية وليست جزئية وفي الكلّية لا يعتبر قدرة الجميع بل يكفي قدرة البعض - فنسأله ونقول:- الآن يوجد حكم كلّي مثل وجوب الصوم ﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ...﴾[1] فنسأل أنّ وجوب الصوم هو ثابتٌ لمن ؟ فهل هو ثابت للعنوان - أي عنوان الذين آمنوا - دون الأفراد أو أنه يتوجّه بالتالي إلى الأفراد ؟ وإذا كان متوجّهاً إلى الأفراد فهل هو متوجهٌ لكل فردٍ فرد أو أنّه متوجهاً لمجموع الأفراد بقيد المجموع أو أنه متوجّه لبعض الأفراد دون بعض ؟ فهذه احتمالات أربع ولا خامس لها.
والكلّ باطلٌ ما عدى التوجّه إلى كلّ فردٍ فرد - يعني انحلالي إلى كلّ فردٍ فرد -.
أما أنّ الأوّل باطل - يعني متوجها للعنوان بما هو عنوان -:- فلازمه أنّ مصبّ الحكم هو العنوان أما أنا وأنت فلم يتوجه الحكم إلينا فنجلس أو ننام ولا صلاة ولا صوم لأنه متوجّهٌ إلى العنوان وهذا باطلٌ جزما.
أو نقول هو متوجهٌ للمجموع بقيد المجموع ، فعلى هذا الأساس لو عصى البعض وأطاع البعض الآخر أن يسجّل الكل عاصياً لأنه حكمٌ واحدٌ متوجهٌ إلى المجموع ولم يمتثل المجموع بما هو مجموع فالكلّ يكون يعاقباً - الممتثل وغير الممتثل - وهذا باطل جزماً.
أو أن نقول هو متوجه للبعض ، فهذا مضحكٌ للثكلى ونحن ذكرناه من باب التوضيح وإلا فلا يوجد احتمالٌ أنه ثابتٌ لبعضٍ دون بعض.
فيتعيّن أن يكون الاحتمال الصحيح هو الانحلال إلى كلّ فردٍ فرد ، يعني تتوجّه تكاليف إلى الأفراد بعددهم ، وإذا جاءنا مولودٌ جديدٌ وبلغ فهو أيضاً يتوجّه إليه التكليف ..... وهكذا الأفراد الأخرى التي تأتي فيما بعد ، فهو منحلٌ بعدد الأفراد ، إنَّ المناسب هو هذا وإلا فلا يصير غير هذا ، بل لا معنى إلا للانحلال فإنّ الانحلال قضية بديهية لا تحتاج إلى بيانٍ وتشكيك ، من قبيل أن أقول ( يا أهل العلم يجب عليكم تقوى الله عزّ وجلّ والسيرة الحسنة ) فما معنى هذا ؟ إنه من الواضح أنه أنت أيها الأخ العزيز تجب عليك التقوى وهكذا الثاني وهكذا الثالث ..... ولا يوجد احتمالٌ آخر ، فهذا يجب أن يكون بديهياً والتشكيك في الأمور البديهية غريبٌ حقاً !! هذا ما أفاده(قده) أوّلاً.
ثم هو(قده) استشهد بمؤيّد ولعلّ هذا المؤيد هو الذي صار سبباً إلى ما ذهب إليه:- وهو مسألة ( النار باردة ) فهو قال إذا كان الانحلال يحصل في الأحكام التكليفية يلزم الانحلال في الأحكام الخبرية أيضاً والحال أنه لا يحصل انحلال ، فلو قال ( النار باردة ) وكان عدد أفراد النار مئة أو ألف لا نقول هو كاذب بعدد مئة أو بعدد ألف.
وجوابه:- نحن نقول إنّه يوجد انحلالٌ حتى في مسألة ( النار باردة ) ، فلو كان عدد أفراد النار مئة فسوف يحصل الانحلال إلى مئة ، وكذلك إذا كان عدد الأفراد ألفاً ، ففكرة الانحلال نقولها حتى في باب الإخبار.
وأمّا ما ذكره من أنه يلزم أن يكون الشخص كاذباً مئة كذبة فيلزم أن يعاقب مئة عقوبة.
فنقول:- إنّ عنوان الكذب من العناوين العرفية والعرف يرى أنّ الكذب يدور مدار تعدّد الخبر وتعّدد الخبر - يعني وحدة الكلام وتعدّده - ، والكلام الذي صدر منه هو كلامٌ واحدٌ ومادام كلاماً واحداً فيحسب كذبةً واحدةً وإن كان ينحلّ إلى عدد الأفراد ولكن هذا الانحلال لا يجعل الكلام متعدّداً بل يبقى واحداً ، ومادام الكلام واحداً فحينئذٍ تكون الكذبة واحدة ، والمؤيد والكاشف والشاهد على ذلك هو أنه لو فرض أنّ هذا المتكلّم الذي قال ( النار باردة ) لو صرّح وقال أيها الناس النار كلّ النار حتى في العراق وفي اليمن وفي كذا وكلّ فردٍ من أفراد النار هي باردة فمع ذلك نحسبها كذبةً واحدةً رغم أنّه صرّح بالتعميم والتعدّد ، فمع ذلك حتى لو صرّح بالتعميم والاستغراق يكون العقاب واحداً وما ذاك إلا لأنَّ الكلام واحداً ، فالكذبة تُعدُّ واحدةً ، فما استشهد وتمسّك به لإثبات عدم انحلال الأحكام الانشائية حيث قاسها على الأحكام الخبرية مردودٌ بما ذكرنا.
يبقى أنه قال:- من أنه حصل خلطٌ لدى الأصوليين بين الأحكام الكلّية وبين الأحكام الجزئية وتصوروا أنّ الأحكام الشرعية هي جزئية والحال أنّها كلية ...... إلى آخر ما أفاد.
ونحن نجيبه ونقول:- نعم أحكام الشارع كلّية ولكنّها انحلالية بعدد الأفراد ، وبالتالي قدرة فردٍ لا تنفع لتوجيه التكليفٍ إلى الفرد الآخر ، بل كلّ فردٍ له تكليفٌ وخطاب فـ﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ﴾ هو منحلّ ، يعني يا فلان كتب عليك الصيام يعني إن كنت قادراً ، و يا فلان كتب عليك الصلام يعني إن كنت قادراً ...... وهكذا ، فهي انحلالية ، ومادامت انحلالية فعلى هذا الأساس يلزم اعتبار القدرة.
وأما ما ذكره في آخر كلامه:- من أنّ القدرة إذا كانت معتبرة في الأحكام الانشائية فيلزم أن نعتبرها في الأحكام الوضعية أيضاً مثل النجاسة والحال أنّ النجاسة لا يعتبر القدرة عليها فسواء أنت قادر أو ليس بقادر النجس نجس ، فالدم الذي في القمر هو نجسٌ حتى إذا لم تكن قادراً على الصعود إلى القمر.
ونحن نقول:- هذا صحيح ولكن توجد نكتة فارقة بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية الانشائية ، وهي أنه في الأحكام التكليفية يوجد تحريكٌ فهي مجعولة بداعي التحريك والتحريك لا يمكن إلا في حقّ القادر ، بينما الأحكام الوضعية فليس فيها تحريك ، نعم لازم اعتبار النجاسة هو وجوب الاجتناب أمّا نفس النجاسة فهي اعتبارٌ ليس فيها تحريك ، ومادام ليس فيها تحريك فلا يلزم في متعلّق هذا الحكم القدرة.
ومن خلال هذا كلّه اتضح أنّ الصواب والصحيح أنّ القدرة معتبرة في متعلّق الأحكام التكليفية كما ذكر الشيخ النائيني(قده) غايته نختلف معه في قضيةٍ فهو لم يدخل هذا العنصر وهو أنه يكفي في القدرة على الجامع القدرة على بعض الأفراد ، ونحن نقول:- يكفي في القدرة على الجامع القدرة على بعض الأفراد ، فالاختلاف اخلافٌ في هذا وإلا فأصل اعتبار القدرة على متعلّق التكليف قضيّة لا ينبغي الاختلاف فيها.