32/12/03
تحمیل
(بحث يوم الاثنين 3 ذح 1432 ه 32)
تنبيه يرتبط بالبحث السابق :
إن ما استُدل به على عدم نفوذ قضاء العبد بما دلّ على عدم نفوذ شهادته باعتبار الملازمة بين عدم نفوذ الشهادة وعدم نفوذ القضاء لو تمّ بمقدماته لصلح أن يكون مقيّداً للمطلقات الدالة على تسوية العبد بالحر في أهليّته لأن يكون منصوباً للقضاء بالنصب العام وكون قضائه نافذاً .. إلا أن الكلام في تمامية مقدماته فإن كبراه ممنوعة إذ لا تنافي ثبوتاً بين عدم نفوذ الشهادة ونفوذ القضاء فلا مانع من دلالة الدليل إثباتاً على كل منهما ، وأما الصغرى فلمعارضة الدليل الدال على عدم نفوذ شهادة العبد بالروايات الصحيحة الدالة على قبول شهادته .
والنتيجة عدم إمكان الاستدلال بما دلّ على عدم نفوذ شهادته على عدم نفوذ قضائه كي يُجعل مقيّداً للأدلة المطلقة فحينئذ يسلم إطلاقها من التقييد فيصحّ التمسّك بها لعدم اعتبار الحرية .
أما السيد الماتن (قده) فالظاهر أنه يستند في عدم اشتراط الحرية وجواز تولّي العبد للقضاء إلى القطع بعدم الفرق بين الحرّ والعبد في تسنّم هذه المناصب الإلهية ومنها القضاء ولولا ذلك
[1]
لكان اللازم بعد عدم تمامية المطلقات لديه هو الرجوع إلى الأصل الذي يقتضي اعتبار كل ما يُحتمل اعتباره ودخالته أخذاً بالقدر المتيقن وهو يقتضي في المقام اعتبار الحرية .
ولكن دعوى القطع بعدم الفرق لا تخلو من إشكال لاسيما بعد ما ذكرناه من وجود موارد مُنِع العبد فيها شرعاً من التصدّي لها ومناصب لم يُرخّص له بتسنّمها فكيف يتأتى معها دعوى حصول القطع بعدم الفرق .
وكيف كان فالصحيح ما ذكرناه من أن اعتبار الحرية ليس أمراً بعيداً بالنسبة إلى تسنّم المنصب دون أصل القضاء وفصل الخصومة .
هذا .. ولْنأتِ هاهنا على ذكر تنبيهات ترتبط بما تقدّم وفي طيّاتها فروع لم يتعرّض لها في المتن ناسب التعرّض لها في ذيل هذا البحث :
التنبيه الأول : ذُكر في كلمات بعضهم شرط آخر غير ما تقدّم وهو أن لا يكون القاضي طاغوتاً
[2]
، واستُدل عليه بالأدلة الكثيرة الناهية عن التحاكم إلى الطاغوت باعتبار أن مدلولها المطابقي هو حرمة التحاكم إلى الطاغوت ومدلولها الالتزامي هو عدم نفوذ حكمه فيُفهم من هذا
[3]
أنه يُشترط في صحة حكم القاضي ونفوذه أن لا يكون طاغوتاً .
وأقول : لم يذكر الأصحاب هذا الشرط مع أنه قد يقال إن دليله واضح وهو ما ذُكر من الأدلة الناهية عن التحاكم إلى الطاغوت ولا إشكال في كون مدلولها الالتزامي هو عدم نفوذ حكم القاضي إذا كان سلطاناً جائراً أو منصوباً من قبله حيث يُعدّ من جملة أعوانه ومن المنسوبين إليه ، ولعل السرّ في ذلك
[4]
هو اكتفاؤهم باشتراط العدالة الذي دلّ الدليل عليه عندهم فإن من الواضح أن كون الحاكم طاغوتاً يعني أنه ليس بعادل فإن الجور سالب للعدالة التي يراد بها الاستقامة في جادة الشرع وغير الإمامي
[5]
وكذا الإمامي إذا كان جائراً ليس بمستقيم .
وقد ذكرنا في بحث شرطية الإيمان أنه لا يُغني اشتراطه عن اشتراط أن لا يكون القاضي طاغوتاً لأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه إذْ لم يؤخذ في مفهوم الطاغوت أن يكون مخالفاً ليختصّ به دون المؤمن
[6]
فالمؤمن قد يكون طاغوتاً كما أن الطاغوت قد يكون مؤمناً فالدليل الدال على اعتبار الإيمان في القاضي لا يكون دليلاً على اعتبار أن لا يكون طاغوتاً بخلاف الدليل الدال على اشتراط العدالة فإنه يدلّ ضمناً على اعتبار أن لا يكون القاضي طاغوتاً فلا داعي لاشتراطه بالخصوص .
التنبيه الثاني : في حكم الترافع إلى الطاغوت تكليفاً ووضعاً ، وهل ما يثبت من الأحكام يثبت بالتحاكم إليه مطلقاً أم يختصّ ببعض الحالات لاسيما إذا لم نجمد على حاق هذا اللفظ
[7]
وعمّمنا هذه الأحكام - كما سيأتي لكل قاضٍ لا تجتمع فيه الشرائط ، وفي حال التمكّن من الرجوع إلى القاضي المنصوب الجامع للشرائط فما هو حكم الترافع إلى غيره ؟
هذه المسألة في غاية الأهمية ولم يتعرّض لها في المتن وهي محلّ ابتلاء واسع كما هو واضح .. فأقول : لا ينبغي الإشكال في حرمة التحاكـم إلى الطاغوت تكليفـاً ويكفي للدلالة على ذلك قولـه تعالى : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به "
[8]
فإن في هذه الآية المباركة دلالة واضحة على حرمة التحاكم إلى الطاغوت بل هي تجعله موجباً لعدم الإيمان حيث أبطلتْ زعمهم أنهم آمنوا ودلّت على أن الإيمان لا يجتمع مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت فكيف بالتحاكم إليه فعلاً فتكون دالة على حرمة ذلك بأبلغ وجه ، فضلاً عن الروايات التي يكفينا منها المقبولة والمعتبرة اللتان تنهيان بصراحة ووضوح عن التحاكم إلى الطاغوت حيث ورد في الأولى بعد فرض السائل التحاكم إلى السلطان أو إلى قضاته قوله (عليه السلام) : " من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى طاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سُحتاً وإن كان حقّه ثابتاً لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يُكفَر به قال الله تعالى : (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به) .. "
[9]
، ولأجل ذلك أطبقت الفتاوى على حرمة التحاكم إلى قضاة الجور تكليفاً في حال الاختيار .
نعم .. وقع الخلاف في حكم ما يؤخذ بحكم الطاغوت وضعاً
[10]
عند الترافع إليه في حال الاختيار على أقوال :
الأول : الحرمة
[11]
مطلقاً سواء كان الآخذ محقّاً أم غير محقّ .
واستُدل لهذا القول بالمقبولة المتقدمة باعتبار ما ورد فيها من قوله (عليه السلام) : (وما يحكم له فإنما يأخذ سُحتاً وإن كان حقّه ثابتاً) والسحت هو الحرام فتدل الرواية على حرمة ما يؤخذ بحكم السلطان مطلقاً وإن كان الآخذ محقّاً في الواقع .
واعترض عليه بما قيل من احتمال أن يكون المقصود في هذه الرواية هو ثبوت حقّه بمقتضى حكمهم لا ثبوت حقه واقعاً فقوله (عليه السلام) : (وإن كان حقّه ثابتاً) بمعنى وإن كان حقّه ثابتاً بحكم السلطان الجائر فثبوت الحق له متفرع على حكم السلطان الجائر فمثل هذا لا يكون حلالاً ويكون سحتاً فليس في الرواية دلالة على عدم حلية ما يأخذه بحكم السلطان الجائر حتى إذا كان حقّه ثابتاً واقعاً وبقطع النظر عن حكمه فلا يصح الاستدلال بالرواية على الحرمة مطلقاً .
وهذا الاعتراض واضح الدفع فإنه خلاف ظاهر الرواية جداً فإن ظاهرها النظر إلى الثبوت الواقعي لا إلى الثبوت في طول حكم الحاكم الجائر فإن هذا المعنى يحتاج إلى قرينة زائدة وهي مفقودة في المقام
[12]
.
إن قيل : إن هذه الرواية مختصة بما إذا كان الحاكم هو السلطان أو القاضي المنصوب من قبله فلا تدل على حرمة ما يؤخذ حتى في حل كون القاضي غيرهما بأن كان إمامياً ولكنه فاقد لبعض الشرائط وكان الآخذ محقاً في الواقع .
فإنه يقال : بعد التسليم بكون مورد الرواية هو ما ذُكر
[13]
إلا أنه بقرينة المقابلة مع ما ذكره الإمام (عليه السلام) حيث أمر بالرجوع إلى من نظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم يتبيّن أن ما يؤخذ بحكم غير هذا الذي أمر الإمام (عليه السلام) بالرجوع إليه يكون سحتاً سواء كان الحاكم به هو السلطان الجائر والمنصوب من قبله أو كان غيرهما ممن كان فاقداً لبعض الشرائط فيُفهم من الرواية أن الحكم بحرمة المأخوذ يدور مدار فقدان الحاكم لبعض الشرائط سواء كان المفقود هو العدالة كما في السلطان الجائر والمنصوب من قبله أو كان غيرها من بقية الشرائط المعتبرة شرعاً فالتحاكم إلى هؤلاء يكون غير جائز تكليفاً وما يؤخذ بحكمهم يكون حراماً وضعاً .
القول الثاني : التفصيل بين ما إذا عُلم كونه محقّاً واقعاً فيُحكم بحلية ما يأخذه بحكم القاضي وما إذا لم يُعلم كونه محقّاً إلا بطريق القاضي الفاقد للشرائط - جائراً كان أو لا - فيُحكم بالحرمة .
واستُدل له بروايتين :
إحداهما : موثّقة ابن فضّال التي يرويها الشيخ الطوسي (قده) بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضّال :
" قال : قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبى الحسن الثاني (عليه السلام)
[14]
وقرأته بخطّه سأله ما تفسير قوله تعالى : (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام)
[15]
قال : فكتب إليه بخطّه : الحكّامُ القضاةُ ، قال : ثم كتب تحته : هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم "
[16]
.
وهذه الرواية تامة سنداً لأن طريق الشيخ (قده) إلى محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري صاحب نوادر الحكمة صحيح والرجل ثقة وكذا ابن فضّال ولكنْ وقع في محمد بن عيسى كلام كثير حيث تقدّم أن أحمد بن محمد بن عيسى استثناه من رجال نوادر الحكمة وقد تعجّب من ذلك ابن نوح وقال : (لا أدري ما الذي رابه فيه؟!) ولكن الصحيح كونه ثقة فالرواية معتبرة سنداً ولا يضرّ جهالة أبي الأسد في اعتبارها لأن الراوي يقول إنه قرأ الكتاب مكتوباً بخطّ السائل نفسه
[17]
ولم يتوسّط أحد بينه وبين رواية ما في الكتاب بل إنه قرأ الجواب بخطّ الإمام (عليه السلام) فلا مجال للخدشة في السند بجهالة السائل بل حتى بضعفه لو فُرض - .
وتقريب الاستدلال بالرواية هو أن يقال بأنها ظاهرة في أن الباطل الذي لا يحلّ أكله في الآية الشريفة هو ما يأخذه الرجل بحكم القاضي وهو
[18]
يعلم أنه ظالم
[19]
، ومفهوم الحصر المستفاد من تفسير الإمام (عليه السلام) للفظ الباطل هو أن غير ذلك - وهو ما يأخذه بحكم القاضي وهو لا يعلم أنه ظالم وغير مستحقّ له فضلاً عمّا إذا علم أنه مستحقّ له وغير ظالم - ليس بباطل ولا يحرم أكله فتدلّ الرواية حينئذ على اختصاص التحريم بما إذا علم أنه ظالم وغير مستحقّ لما أخذ .
[1] أي القطع بعدم الفرق .
[2] أي حاكماً جائراً .
[3] أي بحسب المدلول الالتزامي .
[4] أي في عدم ذكر هذا الشرط من قبل الأصحاب مع وضوح دليله .
[5] أي الاثني عشري وكذا يراد بما بعده أين ما ذُكر .
[6] وهو الإمامي الاثنا عشري .
[7] أي الطاغوت .
[8] النساء / 60 .
[9] الوسائل مج27 ص13 ، والكافي (مج1 ص67) والتهذيب (مج6 ص301) .
[10] أي من حيث الحلية وعدمها ، وفي جميع الأحوال أو على تفصيل .
[11] والمراد بالحرمة هنا الحرمة الوضعية أي عدم حلية المأخوذ بحكم الطاغوت .
[12] بل توجد القرينة على عدم إرادته وإرادة الثبوت الواقعي وهي أنه لو كان المراد الثبوت بحكم السلطان الجائر لكان قوله : (وإن كان حقّه ثابتاً) مستدركاً لا محلّ له لأن المفروض أن ما أخذه هذا الطرف - حيث حكم الإمام (عليه السلام) بكونه سحتاً - إنما أخذه بحكم السلطان الجائر وقد ثبت له - بحسب الفرض - بحكمه فأيّ معنى حينئذ لقوله : (وإن كان حقّه ثابتاً) الذي فُسّر بكونه ثابتاً بحكم السلطان الجائر ؟!
[13] أي من السلطان الجائر وقضاته .
[14] وهو الإمام الرضا (عليه السلام) .
[15] البقرة / 188 .
[16] التهذيب مج6 ص220 ، والوسائل مج27 ص27 الباب الأول من أبواب صفات القاضي الحديث التاسع .
[17] أي أبي الأسد .
[18] أي الآخذ .
[19] أي غير مستحق لما أخذ .