32/11/27
تحمیل
(بحث يوم الأربعاء 27 ذ ق 1432 ه 29)
هاهنا أمور ينبغي التنبيه عليها تتعلّق ببحوث سابقة :
الأمر الأول : تقدّم أنه قد استُدلّ بعموم أدلة ولاية الفقيه على جواز أن يأذن الفقيه لغير الواجد للشرائط في تولي القضاء وتقدّم أيضاً أنه قد نوقش فيه من جهة أنّا لو سلّمنا عموم أو إطلاق أدلة ولاية الفقيه فهذا يتوقف على أن هذا الحق ثابت للإمام (عليه السلام) أولاً حتى يثبت بتلك الأدلة للفقيه وليس من الواضح ثبوته له (عليه السلام) وذلك لأن على تقدير كون الاجتهاد شرطاً فحاله حال الأمور الأخرى المعتبرة شرطاً في القضاء كالذكورية والعلم والعدالة التي لا إشكال في اعتبارها ومن الواضح عدم ثبوت الولاية للإمام (عليه السلام) على تغييرها .
وهذا المعنى مذكور في كلمات معظم علمائنا (قدهم) :
منهم المحقق العراقي (قده) حيث يقول : " وأما مرحلة إعطاء المنصب فهو فرع تمامية مقدمتين : إحداهما قابلية المقلّد للتصدّي له
[1]
بحسب الحكم الجعلي الإلهي .. [إلى أن يقول] .. أما المقدمة الأولى فهو فرع إثبات عدم دخل الاجتهاد في أصل موضوع القضاء شرعاً ، كيف ! وعلى فرض دخله فيه لا يبقى مجال تغيير مثل هذا الحكم الإلهي حتى من الإمام فضلاً عن نائبه " .
ومنهم المحقق النراقي (قده) حيث يقول : " وهل يجوز له
[2]
التولي من جانب المجتهد وبإذنه الخاص؟ .. [إلى أن يقول] .. وتوهّم أن عموم الولاية - في ما للإمام فيه الولاية - ثابت للمجتهد ومنها الإذن الخاص في القضاء مدفوعٌ بأن للإمام الإذن للأهل والقابل فالجواز للمجتهد أيضاً يكون مقصوراً على من له الأهلية "
[3]
.
ومنهم المحقق الإشتياني (قده) حيث يقول : " وفيه أن الاستدلال بالعمومات لا يتم إلا بعد إثبات صغرى وهي قولك إن نصب الإمام (عليه السلام) للمقلد كان جائزاً .. [إلى أن يقول] .. أما الصغرى فللمنع من جوازه للإمام بعدما عرفت من كون الاجتهاد شرطا مشروعاً فبعد إثبات كون اشتراط الاجتهاد في القاضي حكماً إلهياً نقول بعدم جواز تغييره للإمام
[4]
"
[5]
.
وهكذا عبارات غيرهم فالقضية إذاً واضحة ، نعم .. هذا الذي يقولونه - وهو الصحيح - لا ينافي النتيجة التي انتهينا إليها من جواز تولّي غير المجتهد للقضاء
[6]
فإن كلامهم إنما هو بحسب العناوين الأولية فيقال ليست هناك ولاية لأحد على تغيير الحكم الشرعي وخصوصاً الإمام (عليه السلام) لأنه هو الحافظ لهذه الشريعة والمنفّذ لها ، وأما تلك النتيجة فهي بحسب العناوين الثانوية أي في حالة الضرورة أو التقية أو المصلحة الملزمة حيث تقتضي التنازل عن شرط من الشرائط المعتبرة فإن الضرورات تبيح المحظورات .
الأمر الثاني : تقدّم أن الإذن للقضاة في زمان النبي والوصي (عليهما السلام) لا يلازم الإذن للمقلد في زماننا فلا يمكن الاستدلال على جواز الإذن للمقلد في زماننا بصدور الإذن من النبي والوصي (عليهما السلام) للمقلّد في زمانهما وتقدم أيضاً عدم التسليم بكون المنصوبين من قبلهما (عليهما السلام) مقلّدين بالمعنى المبحوث عنه في المقام وإنما الذي يغلب على الظن أنهم كانوا يتلقّون القواعد العامة في باب القضاء سماعاً من المعصوم - أو ما هو بمنزلة السماع منه - ثم يحكمون بما سمعوه منه فيتلخّص دورهم في تطبيق تلك الكبريات على صغرياتها وترتيب الأحكام على موضوعاتها وتشخيص الموضوعات وربما يمكن تسمية ذلك اجتهاداً ولكن بما يناسب ذلك الزمان من حيث كونه قضية سهلة للقطع الصدوري والوضوح الدلالي فليس هناك ظهورات متعددة كما أنه ليس لديهم مشكلة في استظهار المعنى من النصّ .
وهاهنا نقول : لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا بكونه مقلّداً إلا أننا نقول إنه مقلّد من نوع خاص فهو مقلّد قد سمع من الإمام (عليه السلام) بنفسه أو بالواسطة - أحكام القضاء والقواعد العامة في هذا الباب فمثل هذا الذي أذن له المعصوم (عليه السلام) أن يقضي بما يعلم أنه هو حكم الله الذي أنزله لا يصحّ أن نقيس عليه مقلّداً يأخذ أحكامه الشرعية تعبّداً من المجتهد الذي بدوره يأخذها تعبّداً من الأدلة الشرعية فجواز الإذن لذاك لا يلازم جواز الإذن لهذا .
الأمر الثالث : لا يخفى أنه ليس الغرض مما تقدّم إثبات أن أولئك المنصوبين في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) والوصي (عليه السلام) كانوا مجتهدين فعلاً
[7]
ولا الغرض القبول بكونهم مقلّدين من نوع خاص
[8]
وإنما الغرض نفي كونهم مقلّدين بالمعنى المبحوث عنه في المقام الذي يلازم وجود المجتهد وإثبات أن غاية شأنهم أنهم سمعوا من المعصوم (عليه السلام) حكماً وقضوا بما سمعوه .
هذا .. وقد كان الكلام في الجهة الثالثة وهي مسألة التجزّي في الاجتهاد وهناك خلاف في كفايته في القضاء - ونظير هذا يُطرح أيضاً في مقام الإفتاء إلا أنه ربما جُزم بعدم الكفاية فيه وقد نسب غيرُ واحد إلى المشهور بين الأصحاب القول بعدم جواز القضاء للمتجزّي ونُقل عن مفتاح الكرامة دعوى الإجماع على عدم الكفاية وعن بعضهم أيضاً
[9]
الاتفاق على عدم كفاية التجزّي حتى على تقدير كفايته في باب الإفتاء ، وفي المقابل يُنسب إلى العلامة في القواعد وفي جملة من كتبه القول بكفايته مطلقاً وعن بعضهم القول بكفايته على تقدير كفايته في باب الإفتاء .
هذا .. وقد كنّا ذكرنا أنه لا بد - قبل ذكر الأدلة - من تنقيح معنى التجزّي المبحوث عنه في المقام وهو معانٍ ثلاثة :
الأول : التجزّي في مقدمات الاجتهاد .
الثاني : التجزّي في الاستنباط أي التجزّي في نفس الاجتهاد باعتبار كونه ملكة - .
الثالث : التجزّي في الملكة أي التجزّي في إعمال ملكة الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية - .
أما فالأول : فقد ذكرنا أنه لا ريب في كونه قضية يمرّ بها كل من يسلك طريق الاجتهاد ، وقلنا إن هذا ليس محل كلامنا فإن من الواضح أنه لا يجوز له بناءً على اعتبار الاجتهاد - أن يقضي لأنه في الطريق إلى الاجتهاد ولم يُصبح بعدُ مجتهداً فلا ينطبق عليه أنه نظر في حلالهم وحرامهم (عليهم السلام) .
وأما الثاني
[10]
: فالمقصود به الشخص القادر على استنباط بعض الأحكام دون بعض لا لعدم الملكة بل لأحد أمرين :
الأول : عدم إحاطته بما يُمثّل مبادئ تصديقية يتوقف عليها الاستنباط في تلك الأحكام كما لو كان محيطاً ببعض المبادئ التصديقية التي تمكّنه من الاستنباط في أحكام المعاملات دون العبادات أو كانت لديه إحاطة ببحث الظواهر ولكن لم تكن لديه إحاطة ببحث المستقلاّت العقلية فهو قادر على استنباط الأحكام التي تستند إلى الظهور ولكنه غير قادر على استنباط الأحكام التي تستند إلى الملازمات العقلية .
الثاني : عدم توفّر العناصر اللازمة للاستنباط في تلك الأحكام لديه كما لو لم تكن روايات باب المعاملات متوفّرة لديه بل كان الموجود عنده الروايات المرتبطة بباب العبادات فهو قادر على استنباط الأحكام المتعلّقة بباب المعاملات وغير قادر على استنباط الأحكام المتعلّقة بباب العبادات فمثل هذا يُسمى بالمجتهد المتجزّي .
ولا بد في هذا المعنى للتجزّي من افتراض حصول الشخص على الملكة أي حصوله على القدرة على الاستنباط .
وأما الثالث
[11]
: فالمقصود به من تكون له ملكة الاستنباط في باب وليست لديه ملكة الاستنباط في باب آخر حتى لو فُرضتْ إحاطته بمبادئه التصديقية وتوفّر عناصر الاستنباط لديه .
وقد وقع الكلام في إمكان هذا القسم فذهب كثير إلى عدم إمكانه باعتبار بساطة مفهوم الملكة حيث يدور أمرها بين الوجود والعدم فتوجد عند وجود عللها وأسبابها وإلا فلا تحصل وإذا وجدت فهي توجد في جميع الأبواب ولا تختصّ بباب دون باب ولا تتبعّض بلحاظ الأبواب .
وفي المقابل ذهب بعض إلى إمكان تبعّضها واستدلّ بشهادة الوجدان بأنّا نجد العالم النحرير قد يكلّ في بعض الأحيان عن الاستنباط في مسألة من المسائل باعتبار تزايد تشعباتها وكثرة المتعارضات في رواياتها فهو وإن كان ذا ملكة في الاستنباط إلا أنه ذو ملكة في غير تلك المسألة وإلا لما عجز عن الاستنباط فيها وقالوا إن هذا أمر ملاحظ بالوجدان ولا يمكن إنكاره .
وكيف كان فالصحيح في المقام أن يقال إن الظاهر كفاية التجزّي في باب القضاء بالمعنى الأول من المعنيين الأخيرين بعد فرض وجود الملكة
[12]
وبعد فرض الإحاطة بما يتولاّه من القضاء .
وبعبارة أخرى : أننا نكتفي في باب القضاء بكون القاضي عالماً بالحكم الذي يقضي به عن اجتهاد ولا نشترط أكثر من ذلك في الأحكام الأخرى غير المرتبطة بالقضاء
[13]
فلو فرضنا - مثلاً أنه لم تتوفر له العناصر اللازمة للاستنباط في باب الصوم - الذي هو أجنبي عن باب القضاء - إلا أنه كان لديه العناصر اللازمة للاستنباط في باب القضاء واستنبط الأحكام التي يريد أن يقضي بها من أدلتها بما لديه من الملكة فإن هذا المقدار في باب القضاء كافٍ .
وسيأتي الاستدلال على ما ذكرناه إن شاء الله تعالى .
[1] أي للقضاء .
[2] أي لغير المجتهد .
[3] مستند الشيعة مج17 ص26 .
[4] فضلاً عن المجتهد .
[5] كتاب القضاء للشيخ الإشتياني ص12 .
[6] ذُكر ذلك في بحث يوم الاثنين 25 ذ ق ص3 وذُكرت كلمات لبعض علمائنا الأعلام تأييداً فراجع !
[7] وإن كان بالإمكان دعوى ذلك بالمعنى الذي تقدّم .
[8] فإن ذلك كان على مستوى التنزّل والتسليم .
[9] والظاهر أنه المحقق السيد محسن الكاظمي صاحب كتاب المحصول وكتاب وسائل الشيعة في الفقه (منه دامت بركاته) .
[10] أي التجزّي في الاستنباط .
[11] أي التجزّي في نفس الملكة .
[12] أي القدرة على الاستنباط - كما هو المفروض فعلاً في هذا القسم - .
[13] أي من كونه عالماً عن اجتهاد فيها .