32/11/12
تحمیل
تنبيه يتعلّق برواية الأصبغ بن نباتة - التي ذكرنا في البحث السابق أن سندها تام - :
أقول : يُحتمل أن يكون ابن سنان الواقع في سند هذه الرواية هو محمد بن سنان لا عبد الله بن سنان باعتبار أن محمد بن سنان يروي عن أبي الجارود ويروي عنه موسى بن عمر وقد وقعت في أسانيد كثيرة روايته عن أبي الجارود مما يقوّي احتمال أن يكون المقصود في المقام بابن سنان هو محمد بن سنان وسيأتي منّا مزيد توضيح وتحقيق لذلك في البحوث اللاحقة إن شاء الله تعالى .
ووصل بنا الكلام إلى قوله في المسألة الرابعة : " تحرم الرشوة على القضاء ، ولا فرق بين الآخذ والباذل " .
فنقول : لا إشكال في ما ذكره من الحكم في باب القضاء أعني حرمة الرشوة على القضاء بالنسبة إلى الآخذ والباذل - فيلزم ردّ المال إلى صاحبه ، وأما في غير باب الأحكام - بناءً على التعميم فالظاهر أنه الأمر يختلف باختلاف الموارد كما لو دفع مالاً لموظّف لكي لا يظلمه فإنه لا يحرم على الدافع كما نصّت عليه رواية حكم بن حكيم المتقدمة وإنما تثبت على الآخذ وهكذا إذا دفع مالاً ليستنقذ حقّه فلا يكون حراماً على الباذل وإنما يكون حراماً على الآخذ ، نعم .. إذا دفع مالاً لمن كان طرفاً في القبض ولم يكن طرفاً في المعاملة لكي يُنقِص مِن الشرط كالوكيل الذي يستوفي أقلّ من المقدار الذي يلزم الوفاء به للموكّل فالحرمة لا تختصّ بالآخذ حينئذ بل تعمّ الباذل أيضاً .
ثم قال (قده) في المسألة الخامسة : " القاضي على نوعين : القاضي المنصوب وقاضي التحكيم " .
الغرض من هذه المسألة بيان عدم اختصاص القاضي بالقاضي المنصوب بل ثمة قاضٍ آخر يُسمى بقاضي التحكيم ، والمقصود بالقاضي المنصوب الأعمّ من أن يكون النصب فيه نصباً خاصّاً يتعلّق بشخص بعينه أو يكون نصباً عاماً يَثبت فيه النصب لكل من وُجدت فيه شرائط ومواصفات معيّنة ، وفي قبال هذا
[1]
قاضي التحكيم .. وبدواً قد يظهر أن الفرق بينهما هو في النصب وعدمه والإذن وعدمه فالأول يحتاج إلى إذن ونصب والثاني لا يحتاج إليهما إلا أن الحقيقة أن الفرق بينهما ليس قائماً على ذلك فإن كلاًّ منهما يحتاج إذن ونصب باعتبار أن القضاء ولاية على الغير والأصل الأولي أنه لا ولاية لأحد على أحد بل الولاية لله سبحانه وتعالى ولمن عيّنه ونصبه ولا يمكن رفع اليد عن مقتضى هذا الأصل إلا بدليل وهو النصب والإذن وإلا فبأيّ وجه يكون لقاضي التحكيم الولاية على المتخاصمين فإن مشروعية القضاء في التحكيم على نحوٍ يكون نافذاً في حقّ المتخاصمين نوعٌ من الولاية - كالولاية الثابتة للقاضي المنصوب وهي تفتقر إلى دليل مُثبت لها ومُخرج عن مقتضى الأصل فيها وهو الإذن الشرعي وعلى ذلك فيقع السؤال في الفرق بينهما بعد اشتراكهما في الاحتياج إلى إذن ونصب ؟
والظاهر أن الفرق بينهما يكمن في أن النصب في القاضي المنصوب يكون ثابتاً بشكل مباشر من دون أن يكون في طول شيء يُفرض في حين أن النصب في قاضي التحكيمقد فُرض في طول التحاكم والتراضي من قِبَل الطرفين ولذا حينما يتقدم أحد المتخاصمين إلى القاضي بالدعوى فإن كان قاضياً منصوباً يكون بإمكانه أن يُجبر الطرف الآخر على حضور المرافعة ويجب عليه أن يُطيعه لأن النصب كان من قبل الإمام (عليه السلام) مباشرة وليس في طول رضا كلّ من الطرفين ، وأما إذا كان قاضيَ تحكيمٍ فليس من حقّه أن يُجبر الطرف الآخر على الحضور إن كان ممتنعاً .
نعم .. قد يظهر من كلمات بعضهم بل نُسب إلى المشهور على شكّ في صحة النسبة أنه لا يُعتبر في قاضي التحكيم الإذن وهذا معناه أن مشروعية القضاء في باب التحكيم تُستمدّ من نفس التحاكم والتراضي من قبل الطرفين فإذا تحاكما إلى شخص وتراضيا به كان قضاؤه حينئذ مشروعاً ونافذاً من غير حاجة إلى إذن ونصب .
ولكن الظاهر عدم صحة ذلك .. ويمكن أن يُوجّه ما تقدّم بأن قاضي التحكيم لا يحتاج إلى الإذن الذي يحتاجه القاضي المنصوب في كونه إذناً مباشرياً ليس في طول التحاكم .
والحاصل أن النصب المباشر قد يكون عامّاً وقد يكون خاصّاً وعلى كلا التقديرين لا يتأتّى في قاضي التحكيم .
هذا .. ولا إشكال - كما سيأتي في أن هناك جملة من الأمور تُعتبر في القاضي وهي شرائط القضاء من قبيل العدالة والإيمان وطهارة المولد والفقاهة والاجتهاد إلى غيرها مما سيأتي ذكره .. ولكن وقع الكلام في أن هذه الشرائط هل هي معتبرة في القضاء مطلقاً أم هي معتبرة في خصوص القاضي المنصوب دون قاضي التحكيم فبناءً على اعتبار هذه الشروط مطلقاً في قاضي التحكيم كما هي معتبرة في القاضي المنصوب فحينئذ يتولّد إشكال ذُكر في كلماتهم وهو أنه هل يُمكن تصوّر قاضي التحكيم في زمان الغيبة أم لا ؟ فقالوا بعدم إمكان ذلك لأن قاضي التحكيم إن كان واجداً لهذه الشرائط - ومن أهمّها الاجتهاد والفقاهة - فيكون قاضياً منصوباً بالنصب العام وإن لم يكن واجداً لها فلا اعتبار بحكمه أصلاً لأن المفروض أن هذه الشرائط معتبرة في القضاء مطلقاً فإذا كان القاضي فاقداً لبعض هذه الشرائط كالاجتهاد - مثلاً فلا يكون حكمه نافذاً ولا يكون قضاؤه معتبراً .. وعلى ذلك فلا يمكن تصوّر قاضي التحكيم في زمان الغيبة بل لا يمكن في زمان الحضور أيضاً إذا كان المنظور هو زمان ما بعد صدور النصب العام ، نعم .. إذا أنكرنا وجود نصب عام أصلاً أو آمنا به ولكن فرضنا الكلام قبل زمان صدور النصب العام فيمكن تصوّر قاضي التحكيم حينئذ .
والجواب عمّا سبق يمكن أن يكون بإنكار اعتبار تلك الشرائط في قاضي التحكيم أو القول باعتبارها ولكن مع إنكار خصوص شرط الاجتهاد لنكتةٍ سيأتي الحديث عنها وعندها يُمكن افتراض قاضي التحكيم في زمان الغيبة ونستطيع حينئذ أن نعرّفه بأنه الشخص الذي لا يكون واجداً للشرائط جميعاً أو على الأقلّ لا يكون واجداً لشرط الاجتهاد فمثل هذا القاضي يكون قاضي تحكيم ويكون مأذوناً له في القضاء بناءً على مشروعية قضاء التحكيم كما سيأتي - .
هذا .. وما تقدّم كان تمهيداً للخوض في أصلِ المطلب ، والظاهر أن منهجية البحث تقتضي تقديم الكلام على القاضي المنصوب وعمّا إذا وصل إلينا نصب عام وعن هذه الشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب ثم نعطف الكلام بعد ذلك على قاضي التحكيم لنبحث فيه عن الدليل على مشروعية قضاء التحكيم أولاً ثم نبحث عن أن الشرائط التي انتهينا إلى اعتبارها في القاضي المنصوب هل هي معتبرة في قاضي التحكيم أو لا ، وأما عكس ذلك الترتيب كما فعل السيد الماتن بحسب ترتيب مسائله - فهو غير صحيح منهجياً .
إذاً فالكلام يقع في مقامين :
الأول : في القاضي المنصوب .
والثاني : في قاضي التحكيم .
أما بالنسبة إلى المقام الأول ففي القاضي المنصوب ثمة جهات للبحث :
الأولى : ويُبحث فيها عن أدلة النصب العام
[2]
.
فقد استُدلّ على وجود نصب عام في الشريعة في باب القضاء بما هو أشبه بالدليل العقلي وبعدة روايات :
أما الروايات فقد تكلّمنا عنها في بحث سابق
[3]
وهي عبارة عن التوقيع الشريف المروي من قبل إسحاق بن يعقوب : " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم "
[4]
، ومقبولة عمر بن حنظلة : " قال : انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حَكَماً فاني قد جعلته عليكم حاكماً "
[5]
، ومعتبرة أبي خديجة : " إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه "
[6]
.
وهذه الروايات قد فرغنا عن الكلام على سندها بشكل مفصّل في بحث سابق
[7]
وانتهينا إلى اعتبار أسانيدها جميعاً ، نعم .. السيد الماتن (قده) ناقش في أسانيدها فأنكر صحة التوقيع والمقبولة دون المعتبرة فإنه ناقش في خصوص دلالتها على النصب العام ثم سلك مسلكاً آخر في الاستدلال على المدّعى أشبه ما يكون بالدليل العقلي وسيأتي التعرّض له إن شاء الله تعالى .
فالكلام بعد الفراغ عندنا من تمامية أسانيد الروايات المتقدمة في دلالتها على النصب العام فنقول :
الإنصاف أن الاستدلال بالرواية الأولى أعني التوقيع الشريف - على المدعى غير واضح فإن استفادة النصب العام للفقيه قاضياً من قوله (عليه السلام) : (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) بعيد عن لسان هذه الرواية والظهور الأولي لها إنما هو في الشبهات الحكمية فإنها تبيّن الطريق الذي يتعيّن على العوام سلوكه لرفعها وهو الرجوع إلى الفقيه المجتهد القادر على استنباط الأحكام من أدلتها ، وأما القول بأنها ناظرة إلى نصب الفقيه العارف بالحلال والحرام قاضياً فبعيد عن لسانها ، نعم .. هناك طريق آخر للاستدلال بالرواية على النصب العام مبني على استفادة ولاية الفقيه من هذا التوقيع الشريف أي أنه يدلّ على جعل الفقيه والياً ومتولّياً للأمور بولاية عامة على إدارة شؤون المجتمع ومن ذلك القضاء لإقرار الحقّ ومنع الظلم ونشر العدل بين الناس فإنه أحد فروع هذه الولاية العامة .. ولكننا في بحث ولاية الفقيه شكّكنا في دلالة التوقيع على الولاية العامة وبالنتيجة لا يمكن من خلال هذا التوقيع إثبات الولاية على القضاء .
وربما يقال إن المدّعى لا يتوقف على دلالة هذا النصّ على الولاية العامة للفقيه لكي نُثبت بها الولاية على القضاء لأننا وإن اُنكرنا دلالة هذه الرواية وغيرها على الولاية العامة إلا أنّنا انتهينا بالنتيجة إلى إثبات الولاية للفقيه بأدلة أخرى وعليه فيكون هذا المنصب أي الولاية على أمور المسلمين - ممنوح شرعاً للفقيه ولمّا كان القضاء أحد فروع هذه الولاية فيكون ثابتاً للفقيه تَبَعاً فنحن لا نحتاج إذاً إلى دليل ينصّ على منح هذا المنصب للفقيه بل يكفي في إثباته الأدلة التي تُثبت منح الولاية العامة له ليثبت هو بالتَبَع لكونه فرعاً من فروعها .
وهذا ما سلكه السيد الخوئي (قده) لإثبات المدّعى - أي النصب العام
[8]
وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى .
والنتيجة أن الاستدلال بالتوقيع الشريف لإثبات النصب العام من الصعوبة بمكان .
هذا ما يتعلّق بالرواية الأولى وسيأتي الكلام على الرواية الثانية وهي المقبولة في البحث اللاحق إن شاء الله تعالى .
[1] أي القاضي المنصوب بالمعنى المتقدم .
[2] وأما النصب الخاص فلا يقع تحت دائرة البحث لأنه عبارة عن تعيين الإمام (عليه السلام) لشخص بعينه قاضياً بعد تشخيصه (عليه السلام) لتوفّر الشرائط فيه واقتضاء المصلحة لذلك . (منه دامت بركاته)
[3] راجع بحثه الشريف حول ولاية الفقيه في مبحث الخمس .
[4] كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص485 .
[5] التهذيب مج6 ص218 .
[6] الكافي مج7 ص412 .
[7] يُلاحظ بحث ولاية الفقيه في مبحث الخمس .
[8] وهذا ما تقدّمت الإشارة إليه بأنه أشبه بالدليل العقلي .