32/11/02
تحمیل
التقريب الرابع : ما ذكره السيد الخوئي (قده) من أن المستأجَر على العبادة لا يقصد عند الإتيان بها العوض والأجرة
[1]
وذلك باعتبار أن الأجير يستحقّ الأجرة والعوض بنفس عقد الإجارة ويمكنه التصرّف بهما كما أن المستأجِر كذلك حيث يملك العمل في ذمة الأجير بنفس عقد الإجارة وهذا من آثار الملكية المتحققة بنفس عقد الإجارة والتي لا تتوقف على صدور العمل من الأجير خارجاً ، نعم .. إذا لم يؤدِّ الأجير العمل خارجاً جاز للمستأجِر فسخ عقد الإجارة واسترداد العوض إلا أن هذا أمر آخر .
وبناءً على هذا الكلام فإن الأجير حين الإتيان بالعمل لا يقصد استحقاق العوض وذلك لاستحقاقه له في مرحلة سابقة وإنما هو حين الإتيان بالعمل يقصد الوفاء بعقد الإجارة أي تسليم ما يملكه المستأجِر بعقد الإجارة إليه ، ومن الواضح أن كل هذه القصود المتحققة عند الإتيان بالعمل قصود إلهية لا تنافي قصد التقرّب بالعبادة وإنما المنافي له هو قصد العوض عند الإتيان بالعمل ، وأما إذا لم يقصد ذلك بل جاء بالعمل امتثالاً للأمر الاستيجاري - كما يقول السيد صاحب العروة (قده) في التقريب السابق من باب تسليم ما يستحقه الغير إليه فهذا من القصود الإلهية التي لا تتنافى مع قصد التقرّب إليه تعالى فيقع الفعل عبادة وبالنتيجة تكون الإجارة إجارة مستحقة ولا موجب لبطلانها من هذه الجهة بخلاف ما كنّا نفترض سابقاً - قبل هذا التقريب - أن الأجير يقصد العوض والأجرة عند الإتيان بالعمل فحينئذ يتأتّى الإشكال في منافاة ذلك لقصد التقرّب المعتبر في العبادة وعدم إمكان الجمع بين القصدين ، وأما في هذا التقريب فتمّ حلّ الإشكال من أساسه حيث تبيّن فيه أن الأجير حين الإتيان بالعمل لا يقصد العوض والأجرة لاستحقاقه لهما بنفس عقد الإجارة .. إذاً لا بد أن يكون قصده هو تسليم العمل المملوك إلى صاحبه أو فقل قصد امتثال الأمر الاستيجاري وهذا أمر شرعي لا يضر بعبادية العبادة فيقع العمل صحيحاً .
وهذا التقريب لعله من أحسن التقريبات التي ذُكرت في المقام ولعله يمكن إرجاع بعض التقريبات السابقة إليه أو إرجاعه إليها .. ولكن بالرغم من هذا فإنه لا يحلّ الإشكال في تمام مساحته وذلك لأنه لا يمكننا أن نفترض أن كل مستأجَر على عبادة يأتي بها بقصد امتثال الأمر الاستيجاري بل الغالب كما ذكرنا كون الأجير يأتي بها بقصد العوض والأجرة ولو في مرحلة البقاء أي حتى لا يُسترَدّ منه ما ملكه في ما لو لم يأت بما استُؤجر له ويفسخ المستأجِر فتصوّر كون الأجير يأتي بالعمل بقصد الأجرة ليس بعزيز فيرجع الإشكال تارة أخرى ، نعم .. يخرج عنه ما لو أتى بالعبادة بقصد الأمر الاستيجاري فإن هذا القصد لا يتنافى مع قصد القربة المعتبر فيها ولكن يبقى ما عداه تحت غائلة الإشكال .
فالنتيجة أننا بحاجة إلى تقريب آخر لدفع الإشكال في تمام مساحة المدّعى .
هذا .. وهناك تقريبات أخرى أعرضنا عنها لاتّضاح الجواب عنها بما ذُكر من ملاحظات على التقريبات الأربعة المتقدمة .
ثم إن هناك تقريباً لحلّ الإشكال ادُّعي في كلماتهم وهو يختصّ بالواجبات العبادية حيث استدلّ على عدم المنافاة في محلّ الكلام وهو أخذ الأجرة على الواجبات بإمكان الجمع بين قصد العوض وقصد التقرّب وبالنتيجة يرتفع الإشكال وذلك بما ثبت بالنصّ والإجماع من جواز أخذ الأجرة على النيابة في بعض الواجبات العبادية كالحج والصلاة والصيام عن الميت حيث يقال بورود الإشكال نفسه فيها باعتبار أن النائب في الحج - مثلاً - يجمع بين الأمرين فيأتي بالحج قربة إلى الله تعالى وفي نفس الوقت هو يقصد العوض والأجرة ولكن حيث دلّ الدليل في مورد الإجارة على النيابة على جواز ذلك فيُستكشف منه أن الجمع بين القصدين جائز ولا منافاة بينهما فلا بد أن نلتزم بجواز الجمع بينهما وعدم المنافاة في محلّ الكلام أيضاً
[2]
، نعم .. الفرق بين المقامين في أن الأجير في محلّ الكلام يُستأجَر على العبادة عن نفسه في حين أنه في باب النيابة يُستأجَر على العبادة عن غيره إلا أن هذا غير ضائر لأنه إذا لم يكن ثمة منافاة في باب الإجارة عن الغير فهو يكشف عن عدم وجود المنافاة في محلّ الكلام أيضاً لأن الأجرة في كل منهما مفروضة والنائب في باب النيابة يقصد العوض والأجرة من غير أن يكون ذلك منافياً لقصد التقرّب بمقتضى الدليل فليكن في ما نحن فيه كذلك لعدم وجود فرق بين المقامين ، نعم .. نحن لا ندّعي في البين أن كل عمل عبادي تصحّ فيه النيابة وإنما هو تابع لورود الدليل لأنه على خلاف القاعدة ولذا فإن الطهارات الثلاث - مثلاً لم يقل أحد بجواز النيابة التبرعية فيها فضلاً عن الاستيجارية وهذا أمر آخر لا علاقة له بما نحن فيه .
ولكن لوحظ على ما تقدّم بأن قياس محلّ الكلام على باب النيابة قياس مع الفارق لأن الإجارة في باب النيابة تقع على النيابة أي على أن يكون نائباً في العمل المستأجَر عليه بمعنى أن يُنزّل النائب نفسه منزلة المنوب عنه فمتعلّق الإجارة في باب النيابة هو نفس النيابة ولا إشكال في أن هذه النيابة ليست عبادة فمتعلّق الإجارة في باب النيابة إذاً هو عمل غير عبادي في حين أن متعلّق الإجارة في محلّ الكلام هو نفس العبادة حيث تقع الإجارة على العبادة والمنافاة المدّعاة إنما تُدّعى حينما يتّحد متعلّق الإجارة مع متعلّق الأمر العبادي فيقال كيف يمكن الإتيان بالعبادة بقصد التقرّب
[3]
مع قصد الأجرة فلا تكون الإجارة حينئذ صحيحة لعدم قدرة المكلّف على الإتيان بها بقصد القربة إذ لا يمكن الجمع بين هذا القصد وقصد العوض فلا يجوز حينئذ أخذ الأجرة بخلاف أما إذا فرضنا كون الإجارة تتعلّق بفعل آخر غير عبادي
[4]
حيث لا يُشترط في امتثاله قصد التقرّب بالأمر المتعلّق به فيأتي المكلّف بالعبادة بقصد أمرها متقرّباً بها غير قاصد للعوض ولكنه يقصد العوض في مقابل نفس النيابة أي في مقابل أن يُنزّل نفسه منزلة المنوب عنه فليس ثمة إشكال حينئذ في صحة هذه الإجارة
[5]
إذاً فهناك فرق بين المقامين فجواز الاستيجار في باب النيابة كما ثبت بالنصّ والإجماع لا يعني جواز أخذ الأجرة في محلّ الكلام للفرق الواضح بينهما باعتبار أن متعلّق الإجارة في باب النيابة ليس هو العبادة في حين أن متعلّق الإجارة في محلّ الكلام هو الأمر العبادي .
وبعبارة أخرى : إن النيابة كما في كلماتهم - عنوان يطرأ على الفعل المنوب فيه وهو كون ذلك العمل كالصلاة - مثلاً عن فلان فالفعل بهذا العنوان (أي كونه عن فلان) يقع متعلّقاً للإجارة ، وأما الصلاة بما هي صلاة فلا تكون متعلّقاً للإجارة وإنما هي من حيث ذاتها عبادة وهذا نظير الصلاة في البيت فإن اعتبار التقرّب في الصلاة نفسها لا يتنافى مع عدم اعتبار التقرّب بالخصوصية وهي كونها في البيت ولذا يجوز أخذ الأجرة على الخصوصية أي على وقوع الصلاة في البيت فإن هذه الخصوصية ليست عبادية وإنما العبادي هو أصل الفعل فكما يجوز أخذ الأجرة على هذه الخصوصية في هذا المثال من غير أن يكون ذلك منافياً للتقرّب بأصل الفعل كذلك يجوز في باب النيابة .
وبهذا أجيب عن الإشكال المتقدّم وحاصل هذا الجواب أن هناك فرقاً بين محلّ الكلام ومورد الاستيجار في باب النيابة فجواز الاستيجار في باب النيابة لا يلازم الجواز في محلّ الكلام حيث تكون الإجارة ابتداءً متعلقة بالعبادة فهنا لا يمكنه أن يجمع بين قصد القربة وقصد العوض فيتأتّى الإشكال السابق .
وإلى هنا نفرّق بين المقامين فنلتزم بجواز الاستيجار في باب النيابة بمقتضى النصّ والإجماع بل وبمقتضى القاعدة أيضاً حيث تبيّن أنه ليس ثمّة منافاة لتعدّد المتعلّق كما ذكرنا بخلاف محلّ الكلام فننتهي فيه إلى عدم الجواز .
هذا .. وسيأتي منّا إمكان الخدشة في ما ذكروه من دفع الإشكال عن باب النيابة وبيان أنه مثل محلّ الكلام في لزوم الإشكال ، نعم .. تبقى مسألة النصّ والإجماع وسيأتي التعرّض لها إن شاء الله تعالى .
[1] أي أنه (قده) شكّك في أصل المطلب .
[2] أي أخذ الأجرة على الواجبات العبادية .
[3] أي امتثالاً لأمرها المتوجّه إليها باعتبارها عبادة .
[4] يمثّل خصوصية - مثلاً - للأمر العبادي .
[5] وهذا غير محلّ الكلام الذي هو أخذ الأجرة على الواجبات العبادية التي في ذمة الأجير نفسه لا نيابة عن غيره.